الجمعة، 2 نوفمبر 2012

جميع الحقوق محفوظة، يحظر نشر مواد المدونة أو الاقتباس منها دون ذكر المصدر

الأحد، 28 أكتوبر 2012

قراءة في كتاب الأمل الخائب، 2006-2008: ديمقراطية بلا مستقبل


قبل أسابيع نوهت مواقع الالكترونية عن صدور هذا الكتاب لمحمد السالك بن محمد الأمين وزير الخارجية في حكومة سيدي محمد بن الشيخ عبد الله الأولى، ولم أطالعه إلا في الأيام الأخيرة، فحاولت الاكتفاء بتصفح المقدمة وبعض فصوله، في انتظار الانتهاء من بعض الالتزامات، لكني فوجئت مع الفقرات الأولى من المقدمة بأنني أمام عمل جاد يحتاج إلى قراءة كاملة ومتأنية، فكرست الوقت الضروري له، وهو ما لم أندم عليه.
إن الكتاب بالغ الأهمية لاعتبارات عدة، منها: أنه:
- أول تدوين لوزير موريتاني منذ الاستقلال باستثناء عملين تفصل بينهما ثلاثون سنة .
- أن الكاتب وزير خارجية أدار سياسة البلد وحاور قادة العالم.
- كونه شاهدا على أحداث ما تزال فصولها تتوالى، وفاعلوها حاضرون، سواء في السلطة أو خارجها، وكذلك المتابعون في الداخل أو الخارج.
- عنوان الكتاب، الجريء المعبر.
- تطرقه لجوانب أساسية من التجربة التي عاشتها البلاد بعد انتخابات 2006 و2007.
- تحديد دقيق للأهداف وتوجه مباشر للحلول.
- إصراره على تحمل المسؤولية وإبداء الرأي في قضايا البلاد دون تلكأ.
- كشف أمور ظلت مجهولة على مستوى الدولة.
- تشهيره بأمراض الإدارة الحكومية وقادتها من فساد وعجز وانعدام كفاءة ومحاباة.
- التزامه بقواعد التدوين بذكر الأسماء كاملة والتواريخ، واستشهاداته الدالة.
- معرفته الدقيقة بالأصول الدبلوماسية وكيفية التعامل مع العالم الخارجي وقادته ومسؤوليه.
اقتصرت معرفتي للمؤلف على ثلاثة لقاءات، أولها على مائدة عشاء بدعوة منه في منزل أمين عام الوزارة - أياما قليلة بعد تعيينه - ضمن مجموعة من السفراء السابقين: عْلي بن علاف والشيخ سيد أحمد بن بابا أمين وأحمد بن غْناه الله والتقي بن سيدي، إضافة إلى عبد الله بن الشيخ بن أحمد محمود الوزير السابق، وأول وال لموريتانيا لتيرس الغربية سنة 1976 بعد تقسيم الصحراء الغربية.
وخلال العشاء طلب الوزير سماع آرائنا حول مشاكل البلاد الخارجية والتحديات الآنية، وعلى رأسها قضية الصحراء والعلاقات مع الجيران وبقية العالم، ودور موريتانيا العربي والإفريقي، وحضورها في المنظمات الدولية والإقليمية، إلا أن الحديث لم يتطرق لنهاية المسلسل الانتحابي الذي توج بتنصيب رئيس جديد وتشكيل حكومته، رغم أنها كانت ما تزال حديث الساعة. وقد أرسلت للوزير مساهمة مكتوبة عن رؤيتي بشان المواضيع المذكورة وعن جوانب من أوضاع الوزارة والسفارات، لأن روابطي بهذا القطاع - الذي قضيت ثلاثين سنة من العمل فيه بالخارج - ما تزال حية في الذاكرة.
أما اللقاء الثاني فكان زيارة مجاملة له في مكتبه، والثالث بعد ذلك بثلاث سنوات خلال ندوة مشتركة بين نادي نواكشوط الدبلوماسي ومندوبية اللجنة الدولية للصليب الأحمر في نواكشوط عن "تفادي الصراعات في إفريقيا وإدارتها" حيث تولى هو باسم النادي جانب الاتحاد الإفريقي في الموضوع. وقد أدهش الحاضرين - وأنا منهم - بمعرفته الدقيقة لهذه المنظمة وأهدافها ومراحل تطورها، وما تقوم به تجاه الصراعات في القارة، ذلك أنني عايشت تلك المنظمة منذ إنشائها سنة 1963، حيث موريتانيا من الدول المؤسسة، التي أولت كل اهتمامها للقارة التي كانت ملاذنا لفرض سيادتنا في المنظومة الدولية، ثم لكوني قضيت خمس عشرة سنة مندوبا لجامعة الدول العربية لديها، مما مكنني من حضور جل مؤتمراتها ومن ثم الإلمام بالمشاكل والاطلاع على المشاريع المختلفة. وعندما قرأت تنبأ سفير إثيوبيا لدى منظومة الأمم المتحدة في جنيف لمحمد السالك يوم 20 من إبريل 2007 أي أسبوعا قبل تعيينه بأنه سيكون وزير الخارجية في الحكومة الجديدة، تذكرت رد أحد ممثلي الاتحاد الإفريقي في جنيف - في معرض سؤالي عن سفير موريتانيا الذي لم أكن أعرف سوى اسمه وأنه من الشباب الدبلوماسيين المحترفين – "نعم هو بخير وجدير بالاحترام والتقدير" وفي هذه الشهادة تعبير عما يكنه الأفارقة للسفير من تقدير، اكتشفنا جوانب من أسبابه في حديثه عن بعض القضايا ذات الصلة بالقارة وعلاقاته بسفرائها، حيث كان لاعبا رئيسيا في المجموعة الإفريقية والعربية في جنيف وحتى في الأمم المتحدة بنيو يورك.
وقد رأيت أن أخصص مقالين لهذا العمل، أولهما عبارة عن نقل فقرات من المقدمة للقارئ العربي الذي يجب أن لا يحرم طويلا من هذا النص، والثاني في شكل ملاحظات حول بقية الكتاب المؤلف من تسعة فصول.
المقدمة
بقراءتنا للمقدمة نجد أننا أمام كاتب متمرس بأسلوبه وثقافته الواسعة المتشعبة ومعلوماته الغزيرة وقدرته على التعبير المباشر، وفوق ذالك منهجيته المحكمة، التي جعلته يوجز مواضيعه التوطئة ليعود إليها بلف ونشر مرتب، مع نجاح في الترابط المنطقي والسياق التاريخي. وقد أشار عند الوهلة الأولى - بشكل عابر - بمنطلقات أساسية، مثل التعريف المقتضب بمولد الكاتب ومكانه، وبعض الآراء السياسية في مرحلة المراهقة في المدرسة التي سيظل لها ذكر في صلب القضايا الوطنية بعد مرحلة النضج، وبداية المسار، بتخرجه في أول دفعة من الشعبة الدبلوماسية في المدرسة الإدارية سنة 1984، تاريخ التحاقه بالخارجية، وتولي رئاسة قسم الأمم المتحدة، ثم الانتقال، مستشارا في البعثة الدائمة في نيويورك، دبلوماسيا محترفا تدرّج في السلك حتى أصبح سفيرا بعد ثلاث عشرة سنة في جنيف لدى منظومة الأمم المتحدة؛ وهو أمر طبيعي في السلك الوظيفي، خاصة لمن يثبت الجدارة، والاعتماد على الجهد والمثابرة؛ مما يؤكد أنه حتى في ظل أنظمة فاسدة ليس النجاح مربوطا دوما بالتزلف والانخراط في كرنفالات المواسم السياسية، فصاحبنا "لم يحضر قط أنشطة الحزب الحاكم  -آنذاك - ولم يشارك في مسرحية بناء فصول محو الأمية ولا حملات الانتخابات الرئاسية". وهو يعتبر الظهور على خشبة الأضواء مناف لقيمه و"للمهنة التي اختار" منسجما مع قناعته بأن "موظف الدولة لا يحتاج إلى إثبات الولاء، وهو الذي يقوم بواجباته الوظيفية والوطنية رعاية للمصالح العامة ودفاعا عن قضايا الوطن". إذن نحن أمام مسؤول غير ملوث يعرف مأموريته ويتحمل تبعاتها دون حاجة إلى رقيب، بل إلى من يؤازره لتحقيق المصلحة المشتركة.
 وتعرفنا المقدمة على شمائل نصطحبها طيلة قراءة الكتاب: اعتزازه بالبلد وقيمه، من صدق وصبر وواقعية، والتي ظلت زاده في تجربته الثّرة خلال مسيرته الدبلوماسية، وكلها مرتبطة عن قرب بهذه "الأرض ذات الطبيعة القاسية، التي ترعرع فيها أجدادنا وأقاموا بها إمبراطوريات عظيمة ساهمت في نشر الحضارة العربية الإسلامية والإفريقية الزنجية، كما تصدوا ببسالة لصد الاستعمار الأجنبي عنها" ولذلك نراه ينحاز إلى الورثة الطبيعيين لهذه القيم: "الجيل الأول الذي تولى مقاليد الأمور في موريتانيا بعد الاستقلال، ورفع التحدي بتكريس السيادة الوطنية ووضع أسس دولة في مجتمع لم يعرف في تاريخه حكما مركزيا داخليا، تقاس صلابتها (الأسس) بدرجة استعصائها على معاول الهدم الواسع الذي يقوم به الحكم العسكري مذ سنة 1978" إذن هو وريث شرعي لتاريخ هذا البلد الذي "امتاز أهله بقوة التحمل والعزة والتعفف والرضا بالقليل، وبروح التضامن التي كانت مصدر اللحمة الاجتماعية".
• لم يخيب الكاتب الأمل في التصريح بآرائه ثم أفعاله - بعيدا عن تقية العجز- كما عودنا البعض، فهو يكتب ل "تمكين الأجيال الجديدة من أن تطْمئن على تاريخ بلادها، عبر ما دونه أولائك الذين تحملوا مسؤوليات وطنية، داعيا كل من عاشوا هذه الأحداث إلى تقديم رواياتهم". فكتب بأدب ورزانة، وبلغة الواثق في النفس العارف بأبعاد قضايا الوطن وتأثيرات الخارج، معتمدا المعلومة والتحليل الموضوعي للأسباب التي جرتنا إلى ما نتخبط فيه من أزمات في مقدمتها "النكوص عن قيم المجتمع الحميدة، نتيجة التغيرات الاجتماعية والفتور والانفتاح على المجتمعات الأخرى، وتسيير النظام العسكري وعمى بصيرته الذي ولّد صفات جديدة انتشرت في المجتمع الموريتاني، مثل الانتهازية والفراغ، وتلاشي صدقية المؤسسات وتدهور القيم وضعف الضمير الوطني، لينتشر صراع الهويات".
• لم يترك فرصة تفوت إلا وندد بالقبلية وتعارضها مع الدولة والعصر، لأنها تشكل تحديا حقيقيا لبقاء موريتانيا ومستقبلها، وهي التي صارت أساس الحكم ومصدر إلهام معظم النخبة والشباب، حتى رأينا رجالا من الرعيل الأول يتنكرون لماضيهم بالانهماك في إحياء القبلية! وشبابا يتكتلون عبر وسائل الاتصال الاجتماعي "فيس بوك" باسم القبيلة! ومثل القبلية النظام العسكري وقادته الذين تحول الموريتانيون في ظلهم إلى شعب خانع، يتصرفون فيه على هواهم، مع الأقارب والحلفاء، مدجِّنين شرائح واسعة من النخبة، التي تحولت إلى أدوات طيعة ينفذون بها مآربهم في جمع المال وتكديسه، بينما الموريتانيون يعيشون في الفقر المدقع يتخطفهم الجوع والمرض.
وحدثنا - تمهيدا لمعالجة قضيتن مهمتين يجب حلهما لصون الوحدة الوطنية - عن:
• محو آثار الرق
• المهجرين الذين خُصص لهم فصل في الكتاب. لكنه كان حريصا على أن يعطي لكل ذي حق حقه، وأن يكبح جماح الاندفاع، عكسا لما تعودناه [إما ضد أو مع]. وعن أحداث 1989، ونتائجها "  إن جزءا من المواطنين تعرض للقمع والتهجير إلى الدول المجاورة، وبقي الجرح نازفا، مما يجعل من المحتمل قيام مجموعات مسلحة بأعمال تهدد السلم الاجتماعي والوئام الوطني سواء من تلقاء نفسها أو بإملاء من قوة أجنبية. وجرت هذه الأحداث المؤلمة رغم أن الشعب الموريتاني ظل على مدى تاريخه في وئام وانسجام بين قومياته المختلفة التي يشكل الإسلام حصنا منيعا لوحدتها، لكن حاجز اللغة بقي عائقا رغم الاعتراف بأن التعددية تشكل ثراء كبيرا ينبغي صونه بتعليم اللغات الوطنية، وبجعل العربية لغة غالبية السكان اللغة الموحِّدة ". وقد لاحظ "تراجع هذه اللغة بسبب إدخال الاستعمار تعليم اللغة الفرنسية ثم بسبب اختطافها من طرف القوميين العرب المتناسين أنها استُعملت بشكل واسع من طرف السكان الكور" .
إن إثارة موضوع اللغة العربية في غاية الأهمية ما دمنا نريد التصدي لأهم القضايا التي لها تأثير مباشر على لحمة الموريتانيين وهويتِهم كبلد مسلم عربي إفريقي ليس له من صيت أو موطئ قدم في الإقليم ومن ثم في العالم إلا بإشعاعه الديني ونبوغه الثقافي العربي، وهو ما ينسجم اليوم مع تطلعات الأشقاء في سنغال ومالي وتشاد ونيجيريا والنيجر... الذين يولون كل الاهتمام لتعليم اللغة العربية ونشرها ويعولون على الدور الموريتاني.
ونبه الكاتب إلى أن من أسباب تذمر الكور سيطرة البيظان على الثروة، والذي تجلى أكثر فأكثر بعد "وصول ائتلاف قبلي سنة 1984 إلى الحكم، وعزز قبضته على الاقتصاد الوطني. مع ملاحظة أن الغبن عام، حيث لا توجد شخصية من الحوض أو العصابة ضمن الأغنياء الجدد أولائك". وأشار إلى أن الكور استاءوا في المجال الخارجي من انسحاب موريتانيا من الجامعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا دون شرح للأسباب.
• ثم أثار القضية الكبرى الأخرى التي يعاني منها المجتمع ونسيجه الاجتماعي، وهي "آثار ظاهرة الرق البغيضة، والتحدي الذي يشكله اندماج الأرقاء السابقين" منبها إلى "أن الظاهرة منتشرة في جميع مكونات المجتمع، وتمتد إلى خارج الحدود في جميع منطقة الساحل والسودان، لكنه يلاحَظ  أكثر لدى المجموعة العربية بسبب اللون" وذكّر بأن "الأرقاء السابقين هم أكثر شرائح المجتمع فقرا وتهميشا، رغم أن آلافا من المواطنين الذين لم يخضعوا للرق يشاطرنهم هذا الوضع، وهو وضع ظالم اجتماعيا وخطير سياسيا وعقيم اقتصاديا، ومن ثم فهو أكبر خطر يهدد المجتمع الموريتاني، حيث يمكن استغلال يأس هذه الجماهير المعدَمة من قبل تيارات متطرفة ومن قبل دول خارجية لزعزعة البلاد لذلك كان لا بد من مواجهة هاتين القضيتين لمنع خطر الانفجار"
• وتمهيدا للدخول في معمعة الحكم ومعاركه كان لا بد من وصف المشهد السياسي ولاعبيه، فجاء عنوان "صفات القيادة" الذي أعطى فيه للرئيس ما هو أهل له: "الاحترام والتعليم والتجربة وللوزير الأول الشباب والحيوية" مقابل "طبقة سياسية صاغها بشكل كبير الحكم العسكري، متعودة على ممارسات نقيضة لالتزامات رئيس الجمهورية عن الإصلاح وإعادة السلوك الأخلاقي للحياة العامة. فكان من الجليّ أن نجاح التجربة الديمقراطية أو فشلها وإعادة تأسيس الدولة مربوطة بالطريقة التي سيسير بها الرئيس العلاقة مع هذه الطبقة السياسية وبقدرته على مقاومة ضغطها ومناوراتها". ولإكمال الصورة ذكّر بأن الرئيس "رغم تأييده من رئيس المجلس العسكري (الحاكم) وكبار أعضاء المجلس لم يحصل في الشوط الأول إلا على 25% من أصوات الناخبين؛ وتقدم في الدور الثاني على منافسه بأغلبية  بسيطة، رغم انضمام الزين بن زيدان ومسعود بن بلخير إليه. ودلت الأرقام على شفافية الانتخابات وخاصة على وعي ويقظة الناخبين الذين صوتوا بكل حرية".
وكان منطقيا "دمج هذه العوامل واستخلاص رؤية عامة على ضوئها يتم الدفاع عن مصالح البلاد ووضع أسس سياسة خارجية على المدى الطويل؛ أبرزها أربع أولويات: القضاء على التناقضات الداخلية، إزالة العوائق البنيوية، تقوية الإمكانيات المؤسسية، إبراز المصادر الطبيعية عبر مساهمة المهارات المحلية ورأس المال الخارجي الضروري. وعليه يجب تعبئة الطاقات الوطنية لرفع هذه التحديات، مما يحتم على الجهاز الدبلوماسي أن يستعد للإسهام بأقصى ما يمكن في تحقيق هذه الطموحات. ومهما كانت السياسة الخارجية عادلة ومحكّمة فلن تحقق نتيجة ذات بال إذا لم تنفذها دبلوماسية فعالة وكفئة، وبالعكس فإن جهازا دبلوماسيا جيدا لن يحقق نجاحا معتبرا  إذا كانت الأهداف المحددة خاطئة وغامضة" وبعد أن استطرد رؤية بعض الرواد في تعريف الدبلوماسية كـ"أداة لتحقيق مصالح الدول وتنفيذ سياستها اليومية" لاحظ "أن من ميزاتها الاستمرار، لأن المحيط الجيوستراتيجي والإكراهات التي تواجهها كل دولة تكاد تكون ثابتة؛ وفي حالتنا كانت سياستنا جامدة طيلة عقود من الزمن ولم تكن تقاد باختيارات واضحة ومدروسة. كما لم تستخلص دروسا من سرعة التاريخ الناتجة عن انتهاء الحرب الباردة."
وانطلاقا من ذلك حدد الوزير المحاور الرئيسية للسياسة التي سيقودها:
• تعميق العلاقات مع الدول المغاربية
• تأكيد انتمائنا لاتحاد المغرب العربي، والسعي لبعث أجهزته والعمل مع تونس وليبيا – إن أمكن – لحمل الجزائر والمغرب على المزيد من المرونة، إذ بدون هذين البلدين لا يمكن تحقيق أي تقدم.
• تعزيز العلاقات مع دول غرب إفريقيا وخاصة القريبة مالي، سنغال، غامبيا، غينيا بيساو، الرأس الأخضر.
•   تنشيط العلاقات مع دول غرب إفريقيا الأخرى ووضع أسس شراكة مع المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا على أسس قواعد منظمة التجارة العالمية.
• استعادة العلاقات المميزة مع جميع الدول العربية مع عناية خاصة بدول مجلس التعاون الخليجي.
• تطوير الشراكة مع الاتحاد الأوربي، مع العناية بالروابط الخاصة مع ألمانيا وإسبانيا وفرنسا.
• تعزيز الشراكة مع جمهورية الصين الشعبية.
• العمل على رفع العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية لتكون على مستوى العلاقات السياسية.
• تعميق العلاقات مع اليابان
• وضع أسس للعلاقة مع الدول الصاعدة لكسب أكبر قدر من المزايا الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية من تقلبات توزيع الثروة على المستوى العالمي".
أما الخطوات التي تمكّن الجهاز الدبلوماسي من أداء مهمته فهي:
• " إنجاز برنامج للتكوين والتدريب لموظفي الوزارة
• السهر على تسيير الوارد المالية بطريقة سليمة
• تحسين وضعية العاملين الدبلوماسيين
• تحديث الإدارة المركزية والبعثات الدبلوماسية والقنصلية
• تصور سياسة صحيحة للمحفوظات ووضعها موضع التنفيذ
• توخي الصرامة في منح الوثائق الإدارية.

الجزء الثاني
استقبل الرئيس سيدي محمد بن الشيخ عبد الله يوم 1 ميه 2007 وزير الخارجية الجديد محمد السالك بن محمد الأمين صبيحة وصوله إلى نواكشوط، بعد أن تسلم مهامه، حيث عبر له عن رؤيته للوضع الجديد بالقول إن التحدي الذي يواجهه (الرئيس) أكبر مما يتصور، لأن الدولة وبنيتها قد تحللت منذ وصول الجيش للسلطة سنة 1978، وأن القيم الأخلاقية قد سجلت تآكلا خطيرا، ومع ذلك فإن انتخابه قد أثار آمالا عريضة، وأن قطاعات واسعة من الشعب تنتظر تغييرات عميقة، على رأسها استعادةُ دولة العدل والإنصاف، خاصة وأن الأشد فقرا من المواطنين هم الأكثر معاناة من الاستبداد والفساد. ويمكنه الاعتماد على الشرائح الكبرى التي ستكسب من تنفيذ برنامج إصلاحي عادل وعميق لدحر مقاومة المجموعة القليلة المتنفذة التي ظلت تحصد المكاسب من ضعف الدولة". وقدّم له عرضا عن السياسة الخارجية والإصلاحات الضرورية لتفعيل الوزارة وجعل الدبلوماسية أداة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
إنه لأمر جديد وغير مألوف - خلال العقود الثلاثة الأخيرة - أن يقوم وزير خارجية بشرح مهامه وتوجهاته إلي رئيس الدولة. فقد فصلتنا صحراء قاحلة عن العصر الذي احتلت فيه الدبلوماسية الموريتانية مكانة سامقة في وجدان الموريتانيين، وحظيت باحترامهم وعناية رئيسهم الذي تولاها أزيد من سنة، فعرف أهميتها وارتباط بها، وهو ما كرسه الدستور وأصبح دستوريا أو عرفيا في معظم الأنظمة الرئاسية. وظلت الدبلوماسية الركيزة التي نعتمد عليها لفرض وجود موريتانيا على الساحة الدولية، والعنصر الحاسم في بناء السمعة التي حظيت بها البلاد، وأعطتها وزنا أكبر مما هي عليه، وأعطاها بقاء حمدي ولد مكناس وزيرا لها عشر سنوات استمرارية، ساعدت في التحكم في السفارات والموظفين وغطت على الكثير من النواقص البنيوية وضعف الإمكانات المادية، وساهمت علاقاته الشخصية في ربط صلات متينة مع نظرائه في العالم العربي والإفريقي بل لدى معظم الشركاء، فكان المردود إيجابيا. ومع وصول الجيش إلي السلطة تغيرت هذه الوضعية مئة وثمانين درجة بحيث أصبح وزراؤها الأقل استقرارا، حتى أن أحدهم لم يقض إلا عشرين يوما. وتدنت كثيرا مكانتها لتصبح دائرة تابعة لمدير ديوان رئيس الدولة، ليس فقط بغيبة الوزير بل بحضوره وبرغبة منه - أحيانا - حتى لا يتحمل أي تبعات. فرؤساء البعثات يتصلون مباشرة بمدير الديوان، بينما يتولي الأمين العام مهمة التسيير الإداري وتنفيذ تعليمات الرئاسة، وحتى أن التمثيل في المحافل الخارجية ونقل الرسائل إلى القادة لم يعد من مشمولات وزير الخارجية، إذ لا يحتاج – في نظر الديوان - إلى خبرة ولا تجربة. وبشكل عام خرجت الوزارة نهائيا عن دورها "الشكلي" فما بالك بالقضايا الجوهرية كالقيام بالمبادرات وتقديم الأفكار الجديدة ووضع الاستراتيجيات وخطط التنفيذ، فالوزراء مجرد كتبة ينفذون ما يملى عليهم، والخارجية والإعلام مراكز"حساسة" لا بد للعاملين فيهما من إثبات الولاء وخدمة الحاكم والبطانة. 
من هنا نفهم سلسلة الإرباكات التي تعرض لها الوزير في عمله وخاصة مع الديوان الذي يعتبر نفسه وريثا لسابقيه، في عملية استنساخ الماضي التي طبعت التجربة وساهمت في البلبلة والتذبذب الذي يتحدث عنه الكتاب؛ وقد مرَد مديرو الدواوين الرئاسية المتعاقبون على خلق مراكز من العاملين حولهم ممن ليس لهم عمل ولا مكاتب لتدمير الوزراء، بمتابعة عملهم اليومي غير متورعين عن استخدام الكذب، حتى يتسمم الجو ويسود الشك. ومن المحزن أن ذلك يسبب الضرر الكبير لعلاقات موريتانيا والتزاماتها ومواقفها. ويُحسب للوزير تثمينه للنتائج الإيجابية التي تحققت وإسداءه خدمة جليلة بالكشف عن الاختلالات التي عانت منها مؤسسات الدولة: رئاسة ووزارات وبعثات دبلوماسية؛ كما يؤدي واجبا بإطلاع الرأي العام على عمل الحكومة وسياسات البلد ومواقفه؛ لكن المقام لا يتسع هنا لسرد ما أورد.
  ومنذ الوهلة الأولى يسجل الوزير "أن قطاع الدبلوماسية أساسي، إلا أنه في حال يرثى لها، فموريتانيا تُبحر بدون رؤية منذ 1978 بلا سياسة خارجية واضحة أو منسجمة، ترتجل حسب الظروف، وهي لا تستطيع أحيانا الوفاء بالالتزامات التي تتحملها بين الحين والآخر، ووجودها في المحافل الإقليمية والدولية شكلي، فكما قال فيصل القاسم "لا تُستشار عندما تحضر ولا تُنتظر عندما تغيب" ومن ذلك أيضا ما جاء في تقرير بعثة من صندوق التنمية التابع للأمم المتحدة زارها سنة 2000: "إن موريتانيا المتأثرة بالثقافة العربية والإفريقية لا تنتمي لأي منهما". أما على المستوى الإداري فإن الوزارة ملغومة من الداخل على مدى جيل على الأقل بسبب العدد المفرط من العمال عديمي الكفاءة. والإمكانيات الموجودة على قلتها لا توزع بين البعثات حسب ارتفاع المعيشة ولكن حسب تأثير رئيسها".
لقد كانت الورقة الرابحة التي يملكها الوزير لتغيير النظرة السلبية إلي البلاد وإقناع الشركاء من أشقاء وأصدقاء بالدعم والمؤازرة هو إقامة مؤسسات ديمقراطية حيث "شكلت الهالة التي تمتعت بها البلاد صبيحة إقامة المؤسسات الديمقراطية ورقة رابحة" عكسا لما نتذكره عن الورقة التي كان معظم من يصل إلي السلطة بانقلاب يقدمها للمانحين أن الخزينة فارغة لا تتوفر على ما تدفعه رواتب للعمال. وظل يشرح لمحاوريه المزايا التي يمكن أن تُجنى من احتضان التجربة الموريتانية الجديدة سواء في إفريقيا أو العالم العربي أو بقية العالم الذي تتشابك مصالحه، إضافة إلي تعزيز العلاقات مع المحاورين وفتح مجالات للتعاون المثمر، وأنجعُه المنظمات الحكومية التي "توفر الإطار الأمثل للتعاون الدولي. فالدول الصغيرة يمكن أن تحقق تأثيرا يتجاوز بكثير حجمها الحقيقي إذا استغلت التحالفات الجهوية أو السياسية التي تنتمي إليها لتوسيع تأثير مواقفها". وكانت الأسبقية للدبلوماسية الجديدة هي الإسهام في النمو الاقتصادي والاجتماعي الذي له تأثير على حياة الشعب المنتظر لما يساعده، لأن موريتانيا هي رقم 155/177 دولة فقيرة في العالم، تنتمي إلى المجموعة الرابعة الأكثر فقرا. وكان أول ما استهدفه التوجه الجديد: المغرب العربي وإفريقيا جنوب الصحراء خاصة الدول المجاورة، والعالم العربي، مع التركيز على دول مجلس التعاون الخليجي، وهو ما تجسد في الزيارات التي قام بها الوزير لهذه الدول.
أفكار ومبادرات
يتميز الكاتب بروح المبادرة وخصوبة الخيال الفكري حيث لا نجد فصلا خاليا من فكرة أو مبادرة، ومن ذلك:
- السعي لإقامة فريق باسم "أصدقاء الديمقراطية في موريتانيا" يكون راعيا للتجربة الديمقراطية وضامنا لاستدامتها، مؤلف من الشركاء الرئيسيين (ألمانيا واسبانيا والولايات المتحدة وفرنسا) على أن تلتحق بهم دول أوروبية أخرى (إيطاليا والنرويج والسويد)، واقترحت أن تلتحق بهم ثلاث دول إسلامية (ماليزيا وقطر وتركيا) وقد رحب بالفكرة دون تردد رئيس وزراء إيطاليا، كما رحبت بها الدول الأخرى، لكن بعضها طلب مهلة زمنية للدراسة. وقد أحسست التردد لدى مستشار الرئيس بوش للشؤون الإفريقية. وعلى كل فأزعم إنني لو تابعت هذا المشروع أكثر لأمكن إنجازه. ولو تحققت إقامة هذا الفريق لكان لها تأثير على الأحداث اللاحقة."
- إقناعه مجلس وزراء اتحاد المغرب العربي بأن يقدموا لموريتانيا الدعم الذي تحتاجه على غرار ما يفعل الأوربيون مع الدول الأقل نموا، لذلك قرروا "عقد ندوة المستثمرين المغاربيين ونظرائهم من مجلس التعاون الخليجي في نواكشوط. إضافة إلى سعي الوزير الليبي إلى أن يقوم رؤساء الدول المغاربة بزيارة موريتانيا معا، ولو تم لكان له وقع كبير، ويساعد على إحياء مؤسسات الاتحاد الميتة منذ فترة طويلة، والمبنية أصلا على خطأ، وهو تساوي الأعضاء في المساهمات، حيث استحت موريتانيا من أن تثير وضعها الخاص، انطلاقا من نظرتها لقيمة الكبرياء، المتناقضة اليوم مع القواعد التي تسيّر المجتمع الدولي، إذ لا يمكن لأية مجموعة أن تطلب من أعضائها دفع ما لا طاقة لهم به"
- السعي لخروج موريتانيا من اللاموقف من مشكلة الصحراء الغربية التي نعتبر - مثل الجزائر - مهتمين بها، فلا نزيد على تكرار عبارة "إننا مع كل حل يرضاه طرفا النزاع" أمام جميع الزوار مما يجعل من غير المجدي لنا وللأطراف الأخرى والوسطاء كالأمم المتحدة تبادل الرأي معنا. فقد حان الوقت لتكون موريتانيا حاضرة في هذا الملف الذي يرهن مستقبل العلاقات المغاربية والاتحاد المغاربي، ومن ثم مستقبل شعوبنا. وقد أشار الوزير إلي أنه لم يفصح عن بعض الأفكار التي طُرحها على الرئيس في هذا الشأن، وذلك - ربما - ضمن التزامه بأن لا يكشف ما قد يكون له تأثير على مصالح البلاد.
-  - اقتراح المشاركة في قوات الأمم المتحدة في دار فور، مما سيعزز مكانة البلاد في الأمم المتحدة ومع الشركاء، وترشحها لمقعد غير دائم في مجلس والذي تخلت عنه لليبيا رغم معارضة الوزير. وكان الرئيس معاوية بن الطائع قد عرض سنة 1992 إرسال كتيبة إلي دارفور ضمن قوات الأمم المتحدة لكن أمريكا رفضت بسبب تبعيّات موقف موريتانيا من احتلال الكويت.
- عقد اجتماع وزاري لمجموعة (5+5) حول التضامن الرقمي في يونيه 2008 بنواكشوط.
- التمكن من إدخال موريتانيا في مجموعة الشراكة الأورو-متوسطية بعد عشر سنوات من التأجيل.
- إقناع الصين الشعبية بتحويل المساهمة السنوية في ميزانية الدولة إلي تشييد أبنية عمومية.
- حرصه في مؤتمر آناپولي المنعقد في رحاب الحكومة الأمريكية بواشنطن في نومبر 2007 على أن يتحدث عن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 حول تقسيم فلسطين، وهو ما لم  يقم به أحد حتى أصحاب الشأن.
وقد خصص الكتاب صفحات عديدة للعلاقات بين موريتانيا ودول الجوار، حيث يُلاحظ تعقيد تسييرها لأسباب موضوعية أحيانا ونفسية وتراكمية في كثير من الأحيان، لذلك نرى حرصه الشديد على أن يتعامل معها جميعا بالندية، فقد رد علي الرئيس – بشأن - وشاية نمت إليه عن رسالة حادة قد يكون وجهها إلي الرئيس الدوري الليبي لوزراء خارجية اتحاد المغرب العربي، يرفض فيها قرارا لم يُستشر عليه - قائلا "إن دولة لا تحرص على أن تُحترم ليس لها شركاء وإنما أوصياء، وبالتجربة، فإننا لن نكسب احترام تلك الدول بابتلاع الأفاعي، وأرى أن على الدولة الصغيرة أن تكون أحيانا متشددة وإلا فإن شركاءها سيتجاهلونها تماما. واخترت بهذه الرسالة أن يحترم الآخرون القواعد التي وضعناها معا. فالمثل الصيني يقول إن السمك الكبير يبتلع الصغير الذي يتغذى بدوره على القريدس؛ وفي المغرب العربي نحن "القريدس" لكن علينا اليقظة حتى لا نُؤكل. وقد قدم الوزير الليبي للسفير في طرابلس الاعتذار، فأبلغ السفير الرئيس بعد ذلك أنه لم يشعر بالتقدير إلا بعد تلك الرسالة"
ويلفت النظر في الكتاب المعرفة الدقيقة بتاريخ البلاد التي زارها على تنوعها، فقد ذكّرنا بأن دمشق هي أول مستوطنة بشرية على أرض المعمورة وأن صنعاء أول عاصمة في التاريخ، وبمكانة الشناقطة في السودان، ولم يبق له إلا أن يذكّرنا بمحمد صالح الشنقيطي رئيس أول جمعية تأسيسية فيه قامت بإعلان الاستقلال وصادقت على دستوره، ولا شناقطة اليمن والأردن والكويت ومصر وليبيا، ولعل ذلك من باب توخي الاختصار، كما نبهنا إلى أن أول دستور حديث في العالم العربي هو ما استنه البايْ محمد الصادق في تونس عام 1861 مما يفسر رفض شعبها لخنق حرياته.
 ويضاف إلي هذه الميزات التمكن من الأساليب التي يُتعامل بها، من ذلك طلبه لعدد من القادة التدخل لتحسين علاقات موريتانيا مع دول أخرى، والحضور الذهني لتصحيح معلومة أو إسهام في حديث أو تنبيه خلال لقاءات يحضرها بين الرئيس ونظرائه؛ وتلك أيضا من مهام وزير الخارجية في الأنظمة غير الاستثنائية.
**
يضم كتاب الأمل الخائب مقدمة وتسعة فصول هي: وزير الخارجية، وضع التوجيهات المحدِدة للسياسة الخارجية موضع التنفيذ،مجلس الأمن، إسرائيل، قضية الصحراء الغربية، اللجنة الوزارية المكلفة بعودة اللاجئين، وحل الإرث الإنساني، إصلاح وتحديث الجهاز الدبلوماسي، نتائج مشرفة، الستار الحديدي.
لقد عالج الوزير جميع هذه المواضيع بعمق لأنها كانت في صلب مهامه وأشبعها تحليلا، عارضا وجهة نظره وما أنجزه وما لم يتمكن منه، والعقبات التي واجهته، والنواقص التي تعاني منها وزارته، مع ربط المشهد كله بالموضوع الجوهري، وهو التجربة الديمقراطية ومآلها المحزن، موضحا دور كل اللاعبين، ومحددا لكل منهم مسؤوليته وعلى رأسهم الرئيس سيدي محمد بن الشيع عبد الله. وبذلك يرفع سقف النقاش السياسي، الذي ظل متقوقعا حول الهم اليومي، واجترار معلومات قديمة مجتزأة، وتخمينات، دون تحديد المسؤوليات. وينبغي أن يشكل الكتاب إغراء للسياسيين وخاصة أقطاب التجربة المعنية بالإدلاء بدلوهم.

غرائب وطرائف

- توعُّد الرئيس الفرنسي نيقولا سركوزي لأحد معاونيه أمام رئيس الجمهورية ووفده في الأليزى!
- إبدال كاتب الدولة الفرنسي لاسم الرئيس وبحضوره باسم وزيره الأول الزين بن زيدان ثم تصحيح الخطأ.
- العثور على اتفاقية بين موريتانيا وجزر الرأس الأخضر بشأن الجرف القاري بينهما سنة 2003، حيث قُدمت للبرلمان لإجازتها، حتى نتمكن من مد مياهنا الإقليمية 200 بحري طبقا لاتفاقية الأمم المتحدة لحقوق البحار.

تصويبات

أقيمت العلاقات مع سوريا سنة 1966 وسبقتها مصر بسنة، ولم تقدم من المساعدات إلا في الثمانينات وهي كلها في مجال المنح؛ أم سفيرها فكان في نواكشوط سنة 1987.
- جاك لبريت هو ثاني سفير لفرنسا لدى موريتانيا بعد الاستقلال.
- قطعت موريتانيا علاقاتها بإيران بعد العدوان على موكب أمير الكويت أمام قصره، حيث كلفت بإعداد "تقدير موقف" حول الموضوع، نصحت فيه بعدم القطع، وقبل أن أسلمه بساعات أُذيع القرار!.


الأحد، 21 أكتوبر 2012

أوراق عن أژواد/ الثانية عشرة/ قبائل الطوارق


يتوزع الطوارق على التقسيمات الاجتماعية المعروفة لدى إخوانهم وجيرانهم العرب من حيث تركيبة الهرم الاجتماعي، فهنالك على رأسه حمَلة السلاح أصحاب السلطة السياسية، وتمثلهم عدة قبائل تتفاوت في الأهمية موزعة بين مناطق إقليم أژواد الشاسع، ثم حملة القلم إيڴلاد (الزوايا أو الطلبه) ويتمتعون بالنفوذ نفسه الذي لأمثالهم من العرب، ثم تأتي الطبقات الاجتماعية الأخرى من أتباع أو تياب متحالفين، إضافة إلى الصناع التقليديين الذين هم في الآن نفسه أصحاب الفن والطرب، ثم بيلاّت وهم الأرقاء السابقون.

ويتحدث غالبية الطوارق بلغة تماشغ التي تكتب بحروف تيفنياغ التي يعود للطوارق الفضل في المحافظة عليها، وهي اليوم المعتمدة في الفضاء الأمازيغي من غرب مصر (واحة سيوه) إلى المغرب الأقصى. وينحدر الطوارق حسب أغلب الباحثين من خمس هجرات متتالية إلى الصحراء الكبرى وحتى ضفاف نهر النيجر، وهي لمطة وهواره (القادمة) من غرب ليبيا ومسوفه أو كل تادمكت، وڴداله ولمتونه. ومن هذه القبائل انحدر إلمْدَنْ الحاليين وكل تادمكت وإڴلاد والفروع التابعة لها.

وكان لمطه هم أوائل الطوارق الذين احتلوا المناطق الواقعة غرب الأيَر في نهاية القرن السابع الميلادي، ومنهم انحدر إلّمدن - كما سلف - وقد جاءوا من منطقة طرابلس الغرب، بينما بقي جزء من القبيلة في أماكنها الأصلية، بينما اتجهت أفخاذ منها إلى جنوب المغرب وإلى تْوات، ولحقت بها قبيلة هواره التي احتلت المناطق الجبلية للصحراء الوسطى، ومنها انحدر الهوڴار. وكانت لمطه هي التي انحدرت منها أول سلالة حكمت لمدة قرن (ابتداء من 1009م) نهر النيجر، متخذة من منطقة ڴاوو الحالية قاعدتها. أما مسوفه فكانت هجرتهم في القرن الثامن مع بداية الفتح الإسلامي للمغرب العربي حيث احتلوا معادن الملح في تغازه قبل أن يسيطر عليها البرابيش، واستقر أحفادهم أي مسوفه في منطقة افَاڴيبين (رأس الماء) أما كل تادمكت فقد استقروا في منطقة تِلمسي في الشمال الشرقي لڴاوو، وكان ذلك حسب عديد من الباحثين مع بداية التاريخ المسيحي، وأنشئوا مدينة بهذا الاسم يقال إن معناها: شَبِيهَةُ مكّة. وعندما هيمن العرب عليها عبر تجارهم ودعاتهم أيام قيام دولة المرابطين في الغرب سموها السّوق، وأصبحت مركزا للتبادل ورحلات القوافل بين منطقة النهر وروافده وطرابلس وتوات، وصارت مركزا إسلاميا كبيرا، منه انطلقت الدعوة عبر نهر النيجر إلى بعض مناطق الجنوب في بوركينا فاسو الحالية وبنين وغرب نيجيريا.

وكان من ضمن القبائل التي حملت لواء الدعوة مجموعة من أصل شريف هم إفوغاس المنتمين إلى إدريس الأول، ومنهم أُطلق الشرف على عدد من المجموعات المرتبطة بهم، وعرفوا بلقب كلسوق (كل السوق) نسبة إلى المدينة إلى الحاضرة، وانطلاقا من القرن العاشر الميلادي اتجهت قبائل إفوقاس وكلسوق إلى ما يعرف اليوم بآدرار إفوقاس، بينما اتجهت مجموعات من سكان كل تادمكت إلى الجنوب واستقرت في الضفة اليمنى للنهر مقابل ڴاوو.

وقد وصلت بعض قبائل ڴداله ولمتونه في القرن الحادي عشر إلى نواحي تنبكتو، وارتبطوا بالهجرات العربية الحسانية القادمة من جنوب المغرب وشمال موريتانيا، إليهم تنتسب قبائل كلنصر.

وإذا ما عدنا إلى خمسينات القرن الماضي نجد أن القبائل الطارقية موزعة كالتالي:

أولا - إڴلاد (الزوايا) وأتباعهم

1. كلنصر، ويعود نسبهم إلى أنصار الرسول صلى الله عليه وسلم لكن استقرارهم في وسط الطوارق جعلهم يتحدثون لغتهم ويتماهون معهم في العادات والتقاليد ومن ثم فهم مثال للقبائل العربية التي (تطرقت) وينتشر التعليم العربي والإسلامي فيهم بكثرة، ومنهم اشتهر علماء وشعراء، وينقسمون إلى الأفخاذ التالية: الشرفاء، كل تچبس، إنتابن الفاو، إيدنان، كل تاشرير، كل أوروزيل، كل رزاف، بانكور، إدكاكامن، إنتابن هانيبونڴو، كل تينتوهون، كل إنتابوريمت، كل دوكونى، إنتاچيت، كل تينبوكري، كل أبوكاخ، كل إينوكندر ويطلق على هؤلاء كلنصر الغرب، وجيرانهم البرابيش؛ أما كلنصر الشرق الموجودون في تلمسي فيتألفون من: كل حامد طال، كل هَندا هَندا، كل إنكومّن، كل انتورشاون، كل إنابالاهن، إنتّولك، كل إيناڴوزم، كل إمڴشارن (مغشاره) كل غزان، كل إيبادان، كل إنچارن، وهؤلاء جيرانهم كنته. وينتجعون في الوسط وكذلك الغرب حتى ڴوندام.

2. كل هوسا، ويضمون الأفخاذ التالية:كل هوصه الأصليون، كل كمرت، كل طاهروديان، كل تنبوراق، كيلَيْ، كل تينتهون، كل تاداك، كل إندابي، كل طبقات، شرفاء ڴلاڴه، كانيْ، هنڴبير، بيبى فاڴبين.

3. شريفنغ (الشرفاء) وهم عرب تطرقوا، لكن الكثير منهم ما زال يحتفظ بشجرات نسبه العربية، ويوجد البعض منهم في كورمه مع كنته أو إفلان، والباقي في الصحراء، ويتوزعون إلى عدة أفخاذ:إنَتابن، كل إواطه، فاتي كويْ، كل هديده، داباروكويْ، كل أراڴونڴو، بيلّة دبي، بيلة فاڴبين.

ثانيا - قبائل الشوكة وأتباعهم


إن مواطن القبائل ذات الشوكة، الرئيسية المنطقة الشمالية والشمالية الشرقية، وهي التي ظلت تاريخيا تهيمن سياسيا وعسكريا على معظم الإقليم، حتى وصول الفرنسيين مع نهاية القرن 19، ومن أبرزها:

- - إيلّمدن وكانوا أهل الإمارة، وينقسمون إلى غربيين وشرقيين، معظمهم اليوم في مالي والباقون في شمال النيجر، وجنوب الجزائر، ويتوزعون إلى:إموشغ (النبلاء) كل إهارن، كل تهيتات، إغطافنن، إلوغمان، إودالن، إمنان، إمغران، إشد نهارن، إمضضغن، كل ولي.

إفوغاس، وهي قبيلة عربية شريفة تنحدر من إدريس الأول، وكانت من قبائل مدينة السوق التي ورثت مدينة تادمكت بعد اندثارها، وقد انحدر منها العلماء والصالحون، وإليها ينتمي العام والمربي الشهير سيدي عالي بن النجيب شيخ الشيخ سيدي المختار الكنتي. وبالإضافة إلى هذا الدور فهي قوية الشكيمة مهابة الجانب، تستوطن بشكل رئيسي في جبال آدرار (آدغاغ) وتيمترين على الحدود مع الجزائر، التي لها امتدادات بها وكذلك النيجر. وانطلقت منها على مدى التاريخ جميع الثورات والانتفاضات ضد الفرنسيين ثم ضد الحكومة المالية، حتى الثورات المعاصرة والحالية التي يقود أبناؤها أجنحتها الرئيسية اليوم: حركة أنصار الدين وحركة تحرير أژواد.

ويتوزع إفوغاس من الأفخاذ التالية: كل تينبوكورت، كل أباغ، تل كاتن، إيريَڴين البيض ويشتعينين، إيريَڴين الكحل ويلينين، إيبهاون، إيمزڴرن (أهل الذكر) إفرقومس، إيقلاد، إيمدّدغن (يسكنون النهر مع إمغاد) تاراقازا، كل تلميط، كل تشادّين (أهل النخل في تسليت)إبراهيم الدغوغي، الأنصار، والبعض من إفوغاس يسكن النيجر وهم كل تَدَينْ، كل تغليت، يقضاض (الطيور) ومن القبائل المنضوية تحتهم: إڴدلن (ڴداله) أهل السوق (بعض من كل السوق) إيدنان، كل تغليت، إرڴناتن، الكناته (من كنته) إيضبيلالن، يغوزاون، إمغاد وهم أتباع من قبائل شتى، كل أغلال، إيبوعلليتن، إينهاضن (حدادون) وولاؤهم لكل القبائل.

- الهڴار وهي على الحدود المالية الجزائرية، وقاعتها اليوم في تمنغاست بالجنوب الجزائري، ويوجد البعض منها داخل الشمال الشرقي لأژواد، ومن فروعها: كل أغلال، كل أغري، تاغت نلت.

- إيدنان، ويضمون: تالكاست (وهم من الأنصار) إينهرن (الغزلان) تايتوق، كل تيرغست.

- إدوسحاق: وهم من أصول عربية، ومن قبائل العلم.

- كل السوق: تحدثنا عن مكانتها العلمية التي ما تزال قائمة، ولها فروع متفرقة بين قبائل أژواد العربية والطارقية، ويتحدثون العربية إلى جانب تماشغ.

- شَمنمّاس (شام أنماس = الشام الأوسط) وهي من أصول عربية وتنتجع في الوسط وفي أقصى الجنوب حتى بوركينا فاصو.

- إمغاد، وهو خليط من أتباع جميع القبائل ويوجدون بين قبائل الطوارق والعرب. يتبع

**

للمزيد من الاطلاع يمكن الرجوع إلى:

1. HAUT- SNEGAL – NIGER T 1Paris Maisonneuve et larose 1972

2. PAUL MARTY: les kounta de l,este – les brabiche les iguellad, T.1ernest leroux paris 1920.

3. PAUL MARTY : la région de Tombouctou , T.2-

4. صحراء العرب الكبرى لمحمد سعيد الكشاط دار الرواد طرابلس – ليبيا 1994.

5. أژواد أو صحراء التينرى " " "مؤسسة ذي قار سنة 2000.



























الثلاثاء، 16 أكتوبر 2012

أوراق عن أژواد/ الحادية عشرة/ قبائل أژواد العربية

أبدى عدد من المتابعين الرغبة في معرفة تفاصيل عن قبائل أژواد، لذلك سنخصص هذه الحلقة لاتحاديتي البرابيش وكنته التيْن يتوزع بينهما عرب الإقليم.

أ - البرابش

كما أشرنا إليه في الحلقة الأولى من هذه السلسلة فإن أولى الهجرات العربية إلى أژواد كانت البرابيش في القرن 15م، حيث قدموا من تخوم المغرب الجنوبية والصحراء وشمال موريتانيا عن طريق آدرار وتگانت والظهر، وهم البرابيش المنحدرون من حمٌّ بن حسان، والرحامنة المنحدرون من عبد الرحمن بن حسان، أو من رزق بن حسان، ويشكل الفرعان العمود الفقري للاتحادية إلى جانب مجموعات وأسر من أصول شتى منها من ينتمي إلى عرب المعقل، نعبر عنهم بالأصليين، بينما ينحدر الباقون من أصول مختلفة تدل عليهم أسماؤهم، انضموا للاتحادية وأصبحوا جزءا منها إما كحلفاء أو أتباع.

التقسيم

أولا - أولاد سْليمان: مؤلفون من: أولاد سْليمان الأصليين (أهل رحال، أهل مرزوق بن الشيخ، أهل يوسف الكبار، أهل يوسف الصغار) أولاد سْعيد، النهارات، الرتيبات، أهل النفع، أهل منصور، أهل السلام عليكم.
2 - أولاد غيلان:
 أولاد غيلان الأصليون (أولاد أحمد ولد إبراهيم)، أولاد عبد الله ولد إبراهيم، أولاد بوخْصيب (أهل المجيد، الخميرات).
3 - أولاد إيعيش: أهل القوني، أهل حمّ، أهل الحسن.
4 -  أولاد إدريس: أهل مْبارك، أهل عْماره، أهل حموداد، أهل بله، أهل اعلي موسى، عْريب.
5 - أولاد غنام: أولاد معريك، أهل الحسين، أهل حماد، أهل حدي، أهل بجه، أهل بده.
6- أولاد عمران: أهل الهادي، أهل الكوري، المحافيظ.
7 – الگوانين الكحل: أهل بلال، أولاد محمد ولد سيدي احمد، ياداس
8 – الگوانين البيظ: أهل دخنان، أهل الراحل، أهل اميلاه، أهل بو ابْعير، أهل هيمه، أهل اعلي ولد ماما، أهل عمر، أهل أحمدو.
9 – رگان: ياداس، الزريبة، أهل بكار.
10 – السكاكنة: أهل بوصْبيع، أهل الكنيبي، أهل كيجاجا.
11 – أهل أروان: بني سيدي احمد بن صالح (سكان القصر) بني احمد بن أيَر، الحيسة، أولاد بوهدة، النواجي، الوسرة، تجكانت وهؤلاء كانوا من سكان بوجبيهه.
12 – أهل بو جْبيهه
وكان أول مقر حضري لهم أروان حيث أقام به الجد المشترك للعديد من أسرهم: أبو مخلوف ذو الصيت الشائع في القيادة والتدبير والاستقامة ليرتبط بشيخ أروان المعروف الشيخ سيدي محمد آغ آدّه. وظلت سيطرة البرابيش قائمة على القرية حتى بعد وصول الفرنسيين، حيث  زارها كبولاني قادما من تنبكتو تمهيدا لمشروع إقامة مستعمرة "تْراب البيظان" لكن محمد بن مْهمد رئيس البرابيش رفض دخوله الدشرة فعاد خالي الوفاض إلى تنبكتو. 
وأرض نجعة البرابيش واسعة تشمل الشمال الغربي لأژواد من أروان حتى تنبكتو، وغربا حتى العكلة، وجنوبا إلى منطقة الأبيار ورأس الماء أحيانا. وبشكل عام يستخدمون آبار انغارن وإنبلاشا وتنغ الحي وإمراتن وتينتاكونت والحجيو ويشتركون فيها مع قبائل أخرى، أما الگوانين منهم فينتجعون عادة قرب تنبكتو.

ب - كنتة 

أشرنا في الحلقة الأولى إلى أن الهجرة الكنتية إلى أژواد كانت سنة 1130هـ 1717م انطلاقا من الساقية الحمراء، عبر تْوات والحنك وأرڴشاش.
التقسيمات
أولا – كنتة الصحراويون:
تنقسم كنتة الضفة اليسرى (لنهر النيجر) أو كنته الصحراويون (أژواد وآدرار إيفوقاس وتيمترين، إلخ) إلي أربعة أفخاذ كبرى هي الرگاگده وأولاد سيدي المختار والهمال وأولاد الوافي؛ وتتداخل مناطق نجعة هذه الأفخاذ الأربعة بصورة حميمة، كما أن معظم الآبار هي آبار عامة لهم. ويبلغ عمق الآبار عموما بين 50 و90 مترا وتحتوي غالبا على مياه غزيرة، وتكون المراعي بعلية جافة ووفيرة.
أ– الرگاگده : ينقسمون إلي ثمانية أفخاذ فرعية أصلية، يتبع كل واحد منها مخيمات تابعة سواء عربية أو طوارق (إيمغاد) وحتى من إيفلان، ويعرفون أيضا بالتلاميد.
والأفخاذ الفرعية الأصلية هي وحدها التي تعد من أصل كنتي، ويتألفون من حيث المبدأ من ذراري محمد الرقاد، الجد الجامع، المنحدر من سيد أعمر الشيخ بن الشيخ سيدي أحمد البكاي دفين ولاته (920 ه-1514 - 15م) بن سيد مْحمد الكنتي الكبير (القرن 8 هـ 14م) دفين فصك في تازيازت بن سيدي عْلي دفين تْوات في الجزائر، والأفخاذ هي:
  1 -  أهل سيدي الصديق    ( أصليون) 15 خيمة
      أهل عبد المؤمن20 خيمة
      تركزْ 10 خيام
      أولاد عمران 20 خيمة
      أهل لعليبات 14 خيمة
      أولاد البكاي 08 خيام
      أهل النهارات     06 خيام
2 – أهل سيدي علي بن أحمد ( أصليون) 14 خيمة
      الأمهار 16 خيمة
      أهل اگليله 10 خيام
      أهل آمينوكه 07 خيام
 3 - أهل سيدي بن 25  خيمة
      أهل بوزكري     14 خيمة
       أهل كومة 04 خيام
      أهل الطالب الأكحل 08 خيام
4 – أهل سيدي الشيخ ( أصليون) 10 خيام
      أهل خطري 18 خيمة
      أهل عبد الله 06 خيام
5 – أهل سيدي يحيى ( أصليون)20 خيمة
      أهل بيكن 06 خيام
6 - أهل سيدي المصطفى ( أصليون) 04 خيام
     أهل عُمر 07 خيام
7 – أهل الفيرم (أصليون) 05 خيام
8 – أهل لحبار ( أصليون) 07 خيام
وينتجعون إجمالا بين أروان إلى توزاي، ولهم مركز على مسافة 250 كلم شمال شرق تمبكتو، وبه آبار غزيرة المياه.
ثانيا – أولاد سيدي المختار

 ينقسمون إلي الأفخاذ الثانوية التالية:
1– أهل سيدي بادي (حمادي) 45 خيمة
2 – أهل سيدي بو هادي     11 خيمة
3 – أهل سيدي مينه ( سيدي عبدي) أصليون 16 خيمة
4 – أهل حمو صالح 20 خيمة
5 – أولاد زيد 13 خيمة
6 –لمازيّل 10 خيام
7 – أهل الطالب محجوب  وهم تلاميذ    10 خيام
وكانوا في الأصل تابعين لإلمدن، لكنهم يتحدثون تماشغ

ثالثا – الهمال
ينقسمون إلي الأفخاذ التالية:
1 – أهل علواته (بكل) 10 خيمة
2 – أهل سيدي موسى أصليون    15 خيمة
- التوابير 20 خيمة
أهل شيخنا 10 خيمة
النورات 10 خيمة
النهرات 07 خيمة
رابعا– أولاد الوافي
يؤلف أولاد الوافي حاليا أكثر أفخاذ كنتة عددا، أي حوالي 648 خيمة. وينقسمون إلي عشرة أفخاذ، ويطلق على الثمانية الأولى اسم أهل الشيخ ويؤلفون أول مجموعة، ويتألف التاسع من أهل محمد ول احمد، ويشكلون مجموعة ثانية، وفيما عدا هاتين المجموعتين، اللتين تؤلفان نوعا من مجموعة ثانية، هناك الفخذ العاشر، وهم أولاد ملوك، وهم حلفاء قدماء، منحتهم السلطة الفرنسية استقلالا كاملا.
التقسيمات
1 – أهل بادي ( أصليون) 05 خيام 
      الأمهار 25 خيمة
      مشظوف 25 خيمة
      لادم 07 خيام
      الطرشان07 خيام
      دورق 15 خيمة
      تاگاط 05 خيام
      تدابوكه     20 خيمة
      بْدوكن 17 خيمة
      أولاد بن عمار 14 خيمة
      إيفلان 10 خيمة
وينتجعون في عين أوكر وكرشول واتناسيت ويصلون ضفاف النهر.
2 – أهل عابدين ( أصليون) 05 خيام
     الأمهار 15 خيمة
     لادم 10 خيام
     لعريم وياداس والزخيمات والتوابير 25 خيمة
وينتجعون في كرشول وتاسيت وأغاروش وآمراس واسكنت وتابنويت وتيلمسي.
3 – أهل الشيخ سيدي البكاي ( أصليون) 04 خيام
      أهل التمري 25 خيمة
      ياداس 10 خيام
      أهل الأزرق 07 خيام
      أهل الفلاني 07 خيام
وينتجعون في كرشول واتناسيت وتاركنت وآمغاز وﻤﭽاگلت ومرزفال وأفايس.
4 – أهل بابا ولد سيدي بابا أحمد (أصليون في البدء) 25 خيمة
      أولاد زين العابدين ( أصليون في البدء) 15 خيمة
      أهل سيدي بادي ( أصليون) 10 خيام
      لادم 20 خيمة
      أوريلة ايمانيس20 خيمة
وينتجعون في وادي اكرر، وأصكان وتبنكورت.
5 – أهل باي ( أصليون)     20 خيمة
      إيفلان 36 خيمة
      لادم 05 خيام
      التلاميد     15 خيمة
وقد غادرهم إلى كنتة النيجر بسب الاحتلال أهل علوه (4 خيام) وأهل الركوه (6  خيام) وأهل بركه خيمتان وأهل عابدين آغ طالبي خيمة واحدة، أولاد سيدي أحمد (3 خيام) أهل الطالب عْلي (4 خيام). ويقصدون في نجعاتهم آدرار ايفوقاس ولا سيما تكلوت.
6 – أهل بابا ولد الشيخ سيدي محمد (أصليون) 05 خيام
      ترمز      (أصليون)45 خيمة
      النهرات (أصليون) 15 خيمة
      الحبوس (أصليون)20 خيمة
7 – أهل سيدي الأمين (أصليون) 03 خيام
      إيفلان 03 خيام
وينتجعون في تفاريست.
8 – أهل الشيخ سيدي أعمر  06 خيام
      تجكانت 10 خيام
     أهل توات 15 خيمة
     أولاد سْعيد 10 خيام
     دورق06 خيام
     أهل العطاري 06 خيام
     حرطان (حدادون)04 خيام
ينتجعون من غاروس إلى اسلاگ، ويقصدون في كثير من الأحيان آدرار إيفوقاس حيث يملكون أراض رعوية خاصة بهم.
9 – أهل محمد احمد ( أصليون) 20 خيمة
      أهل سيدي عبد الرحمن ( أصليون) 20 خيمة
ويدعى هذا الفخذ الفرعي أحيانا أولاد سيدي الوافي الأصليين، وينتجعون في اتناسيت وفي تفليست.
10 – أولاد ملّوك ( أصليون)  20 خيمة
        أولاد عمر  ( أصليون) 20 خيمة
        أولاد حديك  ( أصليون) 10 خيام
        أهل القبلة ( أصليون) 25 خيمة
ويوجد في إقليم دنك (النيجر) أكثر من ألف خيمة كنتية متمردة على الاحتلال، وينقسمون إلى مجموعتين حسب الأصل:
1-    فخذان رئيسيان: كانوا حلفاء سابقين لأهل بادي، الذين ردوا عليهم استقلالهم، وقد ذهبوا نحو الشرق في عام 1890 في فترة الحروب بين كنته وإيلمدن، وهم درمشاكة الذين يضمون حوالي 400 خيمة وياداس الذين يؤلفون 200 خيمة، وحدد الفرنسيون في القرن الماضي إقامتهم في طاوه .
2-    أربعة أفخاذ كبرى، واثنان صغيران:
الاتواج، (300) خيمة، ويتألفون من- مجموعة أولى 30 خيمة
2- مجموعة ثانية 40 خيمة
3- مجموعة ثالثة 20 خيمة
     وكانوا ينتجعون في أطلگ، وفي عين إيتيسان وآدرار.
-    تاگاط وهم إجمالا 90 خيمة، وينتجعون في آدرار إيفوقاس.
خامسا: الطرشان ثمانون خيمة.
وتضم كنتة الصحراء 2229 خيمة وعشرة آلاف نسمة (1915)
ثانيا – كنتة گورمة ويدعون أيضا كنتة أريبنده (الضفة اليمنى للنهر) فهم أقل عددا بكثير من أبناء عمومتهم الشماليين. وبما أنهم يعيشون في وسط أقوام زنوج ويختلطون بهم عن طريق زيجات عديدة، فيظهرون شديدي التهجين. وهم ينتجعون في بحيرات العقفه: كورسي، گادو، دو، نيانگاي، هاريبنگو. ويزرعون في حقول يملكونها الأرز والدخن ولهم سبع قرى على ضفتي بحيرتي گارو وهاريبنگو.
وينقسمون إلي مجموعتين:
أهل بادي: ومعهم زوايا وأتباع أو إيمغاد. والأفخاذ هي شريفن (كل السوق) ايمورامن، أهل كاهيدي (برابيش) إيدنان، الحراطين الحمر، ايكايماداين، ايكورشاتن.
أهل سيدي علواتة
أهل سيدي علواتة الأصليون، أولاد ملّوك حراطين أولاد ملوك، ايدوفان (بيلّة: طوارق) ايبغاف بغافن المستقلون. وتضم كنتة گرمه ألفي نسمة من ثلاثة آلاف (1915).
ج - قبائل لم ترد أسماؤها في المراجع المذكورة

توجد بأژواد داخل الاتحاديتين الكبيرتين(البرابيش وكنته) وخارجهما خاصة في المراكز الحضرية، خيام وأسر من قبائل موريتانيا مثل:  تكنه، تركز، حم صالح، أولاد الملات (أولاد دْليم) المصادفه، الرگيبات، تنواجيو، آمگاريج، أولاد سالم، أولاد عمني، الگواليل (تجكانت)الرماظين (تجكانت) إدگجملّه، أهل بوردّه، ادگاربن، أهل السيد (أولاد بالسبع) إدوعلي، أهل باريك الله، لمرادين، اتمدك، أهل الطالب مختار، إديبوسات.









السبت، 6 أكتوبر 2012

أوراق عن أژواد/ العاشرة/ خطر الانزلاق والفشل

رحب شعب أژواد في غالبيته الساحقة بتحرير إقليمه، واستبشر خيرا رغم ما عاناه جراء الاقتتال بين الثوار والجيش، الذي دفع فيه أثمانا باهظة، على رأسها النزوح الداخلي واللجوء إلى الدول المجاورة.
  وكان على القادة الجدد أن يتصرفوا كأبناء بررة لشعب مقهور ومشتت، لا بد من لمّ شمله وتضميد جراحه، وطمأنته على حاضره، وأن يسهروا على صون وحدته، وكسب ثقته، ويزنوا ما حملوه على عواتقهم من مسؤوليات جسام أمام الله والشعب والتاريخ والجيران  والعالم، حتى يثبتوا جدارتهم بما حققوا من انتصار.
ومن الغريب أن الثوار لم يضعوا في الحسبان ما بعد التحرير، إذ لم نر خططا جاهزة للسيطرة الفعلية على الأرض، وضمان استمرار المؤسسات الرسمية القائمة – على علاّتها – من إدارة ومصالح خدمية من طب وتعليم وزراعة ... وشرطة، لأن حياة الناس مرتبطة بها، وهي وسيلة الحاكم لضبط الأمور وصيانة الحقوق وبسط العدل والإنصاف، ثم العمل على إرجاع النازحين واللاجئين إلى أوطانهم، وطمأنة الجيران، وخلق جو من الثقة معهم سعيا وراء بسط السلم والأمن والاستقرار في المنطقة، والتعاون مع المنظمات الإنسانية والإغاثية، مما سيعتبر رسالة طمأنة إلى العالم، وبالتالي إزالة مسوغات العودة إلى الأوضاع السابقة، ونزع فتيل التدخل الخارجي.
لقد خاب أمل الكثيرين من أبناء أزواد والمتعاطفين مع قضيته ممن كانوا ينتظرون السير في هذا المسلك، رغم تفهم طبيعة تكوين الحركات الأژوادية والظروف التي انطلقت فيها للإجهاز على الجيش المالي، وكذلك الوضع داخل الإقليم، وعلى الخصوص إرث العقدين الأخيرين من الفوضى والتخريب. نعم ضاعت فرصة ثمينة خلال الأشهر الستة الماضية، وزاد الوضع تعقيدا. فقد ظهر إلى العلن الخلاف بين الحركتين الرئيسيتيْن التيْن قادتا الحرب وحققتا الانتصار: الحركة الوطنية لتحرير أزواد وأنصار الدين، بمآزرة بعض كتائب القاعدة في الغرب الإسلامي .
ولولا أن قادة الحركتين ينتمون إلى المجموعة التي ظلت رأس حربة النضال منذ الستينات: إفوقاس، بل يرتبطون بعلاقات قرابة مباشرة وتجمعهم المصاهرة لكانت عواقب الاختلاف مأساوية؛ وقد أُعجب المراقبون بأنهم وضعوا جانبا - منذ الوهلة الأولى - الاختلاف الإيديولوجي: العمانية والسلفية، وحافظوا على التشاور والتواصل الأُسري، واضعين نصب أعينهم قضية تحرير الإقليم. غير أن الصائدين في المياه الآسنة نجحوا في تعطيل سلاح أحد أجنحة النضال (حركة تحرير أزواد) بجرها إلى الدخول في مواجهة دامية مع مجموعة سلفية منشقة عن أحد فروع القاعدة في المغرب الإسلامي منذ العام الماضي (حركة التوحيد والجهاد) المكونة أساسا من عرب أزواد وموريتانيا وبعض أبناء دول الكور المجاورة، ومن بين قادها من هم متهمون بالضلوع في الاتجار بالمخدرات.
وحسنا فعل زعيم حركة أنصار الدين إياد آك غالي في البداية بنأيه عن هذا الصراع رغم أنه يقدّم كحليف لبعض الحركات الأصولية المسلحة، وفي الآن نفسه يعد أبرز قائد في إيفوقاس الذين يتزعمون - اليوم كما الأمس - قيادة الكفاح المسلح ضد حكومة بماكو، والذين إليهم تنتمي غالبية كوادر حركة تحرير أزواد أيضا.  وهذا التبصر قد يجعله الرابح من العملية بحيث استوعب دون عناء جميعَ مقاتلي الحركة التي فقدت قيادتها، فأضحت مجموعته الأقوى والأكثر تأثيرا في الإقليم، والأوفر صدقية لدى السكان بحيث أصبح أهم شخص يعول عليه لإيجاد حلول للأزمة عبر المفاوضات.
وقد لوحظ أنه بقي على مسافة من حركة التوحيد التي يصفها البعض بالجسم الغريب لا تهمها تطلعات السكان وهمومهم، خاصة أن غالبية الوسط الذي تتحرك فيه مؤلف من السونغي والفلان وغيرهم من السكان الكور في گاوو وادوينزا وبقية مراكز الضفة، فبدل الرحمة بالناس ومواكبتهم في حل مشاكلهم، وتقديم بديل أفضل عن السلطات السابقة، ساهمت في خلق فراغ في السلطة والأمن بعد تدمير الإدارة والمرافق الخدمية، وُأخذ عليها العديد من التصرفات غير المقبولة، كمضايقة الناس في حياتهم اليومية بل استعمال العنف غير المبرر. كل ذلك عزز الشكوك المثار حول دوافعها الحقيقية من وراء تنصيب نفسها "إمارة إسلامية" قيّمة على الدين الإسلامي وشريعته السمحة، مما دفع أعداءها إلى تحمليها مسؤولية تشويه صورة الأزواديين وحركاتهم الوطنية، في الوقت الذي هم في أمس الحاجة إلى تحسينها ليقبلهم العالم ويتفهم قضيتهم، ويساعدهم في توفير الطعام والماء والدواء للسكان. فبدل ذلك اندفعوا في خلق عداوات داخلية لا سبب لها و لا طائل من ورائها، ونجحوا في إثارة الكراهية والنفور منهم، عندما توجوا تصرفاتهم  بحملة تهديم أضرحة العلماء والصالحين اتسعت الهوة بينهم أيضا مع العالم الخارجي؛ الذي لم يتفادوا استثارته وخاصة الجيران مثل الجزائر.
وكما مر بنا في الحلقة الماضية فإن محللي مؤسسة كارنيغي يرون أن دوافع نفسية واجتماعية - من باب العلاقات الاجتماعية والتراتبية داخل النسيج الاجتماعي - من أسباب اندفاع أفراد في هذه الجماعة في نهجهم المتشدد ضد بعض المكونات الأخرى في المجتمع ورموزه الدينية، ذاكرين بالاسم الأمهار مع كنته وإيمغاد مع إيفوقاس؛ حيث يسعى هؤلاء الأفراد إلى الانتقام ممن يصورونهم المسؤولين عن "الغبن" الذي كانوا يعيشونه ضمن مجموعات قبلية، غير مدركين لقانون التشكل والانشطار، خاصة في المجتمعات الطارقية والعربية سواء في أزواد أو موريتانيا أو غيرهما. فالقبائل مهما كبرت تبدأ برجل يؤلف مع أسرته النواة الأولى، ثم يجتمع أناس من مجموعات أخرى حولهم، لحاجتهم إلى الحماية في ظل زعامة دينية أو نفوذ سياسي أو هما معا، فتتوسع الدائرة حتى تصير قبيلة، مع تباين في درجة الانصهار الداخلي بين قبيلة وأخرى.
وكما أشارت إليه الدراسة فقد وقعت إشكالات بين أفراد من إيمغاد وقبائل طارقية ذات شوكة، تجلت في بعض المواجهات، ووقع الشيء نفسه بين أفراد ينتمون إلى بعض أسر الأمهار وآخرين من أفخاذ إخوتهم في عشائر كنته الأخرى، بلغت حد الاقتتال بالسلاح، واستخدم فيها "المتظلمون" آنذاك شعارات تطالب "بالمساواة وانتهاء الهيمنة" لكن الأمر انتهى بالصلح، وتبين أن للحكومة ضلعا فيه. والواقع أن الأمهار - حاضرا وماضيا – هم أرومة عربية أصيلة، تحالفوا مع كنته واندمجوا فيها كعشرات الأفخاذ وآلاف الأفراد الوافدين، منذ عهود طويلة في موريتانيا وما يزالون كذلك، ومَنْ هم في أزواد يعيشون في تناغم كامل داخل عشائر كنته المختلفة، رغم ظهور إشكالات بين الأفراد بين الحين والآخر .
وفي زمن الشيخ سيدي المختار الكبير وقع خلاف بين الأمهار وأحمد بن محم بن بابا بوسيف رئيس أولاد بوسيف العام ، مما جعلهم ينضمون إلى مجموعات قبلية أخرى، فطلب أحمد من الشيخ التدخل، فأصلح ذات بينهم؛ بعد أن أعرب الأمهار عن استيائهم من الرئيس العام قائلين: إنه لا يعدّنا أحياء بل موتى، لا يستشيرنا في أمر ولا يدعونا إلى نائبة.. إلى آخر ما اعتذروا به، فلما قدم بهم الشيخ على أحمد قال له في استشارتهم وعرْض الأمور على رؤسائهم ما لفظه: الفردية لا تصح إلا للفرد الأحد، فأيُّّ قوم كنت فيهم، عَلوْا أو سفلوا، عقلوا أو جهلوا، اتخذ منهم رؤساء تستعين بهم على أمورك، وتأخذ بهم على مَن سواهم من سفهائهم، وربما أشار عليك منهم مشير برأي غاب عنك أو يطلعك على أمر خفي عليك، وأنشد قول الشاعر:
وأنزلي طولُ النوى دارَ غُربة    إذا شئتُ لاقيتُ امرُؤا لا أشاكله
فحامقْته حتى يقال ســـــجية        ولو كان ذا عقل لكنت أُعـــاقله
 وقد أنصفهم الشيخ أيما إنصاف في بقية هذه القصة التي أوردها الشيخ سيدي محمد في كتابه الطرائف والتلائد. يتواصل 

الأحد، 30 سبتمبر 2012

أوراق / التاسعة/ الانتصار العسكري والتركة الثقيلة


من نتائج سقوط النظام الليبي - التي فاجأت الجيران ودول حلف شمال الأطلسي - خروج تشكيلات أژوادية مدججة بالسلاح من رحم القوات الليبية، وقطع آلاف الكيلومترات عبر النيجر وربما الجزائر، لتأخذ مواقعها نهارا جهارا في أرض أژواد، وتباشر استعداداتها الحربية أمام أعين القوات المالية المرابطة في قواعدها المختلفة، وتحتل بسرعة البرق كامل إقليم أژواد، وتنهي وجود الحكم المالي جيشا وإدارة.
ومن الواضح في هذه الملحمة إحكام الخطة التي وضعت لتحقيق أهدافها المصيرية، دون خسائر تذكر، بفضل الكفاءة العسكرية، وانضمام غالبية المقاتلين الأژواديين العاملين والمسرّحين والمنخرطين في الجيش المالي، واختيار الوقت الأنسب، حيث كان الجميع منشغلا بما يجري داخل دول الربيع العربي، دون أن يرفعوا البصر صوب حزامه الجنوبي، حتى يروا حراكا ربيعيا آخر على يد فصيل من هذا النسيج الاجتماعي والبيئي العربي الإفريقي الإسلامي، الذي عانى منذ القرن الثامن عشر الغزو الاستعماري الصليبي والذي استعبد السكان ونهب الخيرات، وحارب الدين واللغة، ومسخ الهوية وحطم أسس المجتمع الأهلي، قبل أن يضطر كارها - في أحيان كثيرة- إلى الانسحاب تحت ضربات المقاومة التي لم تتوقف وإن تعددت أشكالها، ويغادر - في أحيان أخرى - بترتيب مرتب، يضمن استمرار النهج على يد أنظمة حارسة لمخلفاته.
لقد كان من الجلي أن الحركات الأژوادية قد استوعبت دروس نضالها الطويل الذي شاب فيه الولدان، والنكسات التي تعرضوا لها، خاصة ثورة 1990 التي قادتها حركة تحرير أژواد بزعامة إياد آڴ غالي، قبل أن تتفرق إلى خمسة فصائل موزعة الولاء - الكلي أو الجزئي - بين الدول المجاورة (الجزائر، ليبيا، المغرب، بوركنا فاصو، موريتانيا) لتكون ثمرةُ التضحيات الجسيمة التي قدمها المقاتلون والشعب الأژوادي في الداخل وفي المهجر، رزم من الاتفاقيات والالتزامات، التي صدرت عن مؤتمرات جُند لها عشرات الدبلوماسيين، وأظلتها منظمة الأمم المتحدة، بمشاركة المنظمات الإقليمية، والدول المجاورة والمانحة. وكل ما تحقق تظاهرات دعائية فولكلورية، أهم مشاهدها حرق السلاح، ووعد بماكو بإقامة حكم أقل مركزية، والتزام  المانحين بتقديم مساعدات اقتصادية لتنمية الإقليم وفك عزلته وربطه بمسيرة التنمية في مالي، غير أن كل ما نُفذ إنشاء ولاية جديدة على الورق في كيدال، بدون موارد ولا تجهيز، وضمِّ مجموعة من المقاتلين إلى الجيش المالي، واكتتاب بعض صغار وكلاء الإدارة، بينما استحوذت الحكومة المركزية على المساعدات المقدمة من المانحين، واكتتاب الأمم المتحدة بعض زعماء الجبهات المقاتلة. لذلك لم يكن أمام زعماء الحركات الأژوادية بعد عقدين من اتفاقيات تمنغاست ومماطلة الحكومة سوى الدخول في هذه المغامرة الكبيرة ورفع سقف مطالبهم هذه المرة إلى أقصاه، وهو الاستقلال (حركة تحرير أژواد) أو تطبيق الشريعة الإسلامية في مالي كلها (أنصار الدين).
وكان من المنطقي – لو في مالي حكومة مسؤولة – أن تُقر بالأمر الواقع وتتعامل مع الوضع الجديد بحكمة وصدق في النيات، وتبدأ مفاوضات فورية بعد أن أعلن الطرف الثاني استعداده لها، لكن عادة السلطة المالية التعنت والاعتماد على العنف، وهو ما تغلب هذه المرة أيضا. في هذا الوقت دخلت على الخط فرنسا، الوصي المعتمد على مستعمراتها السابقة، فشجعت انقلابا عسكريا على الرئيس المنتهية ولايته، ودخلت في اتصالات علنية مع حركة تحرير أژواد، موحية بأنها خاضعة لها، عندما تدخلت بقوة لمنع تنفيذ اتفاق بين الحركة وأنصار الدين ينص على أن الدولة الجديدة ستطبق الشريعة الإسلامية.  وبذلك دقت إسفينا بين الحركتين، مما عجل بإبعاد حركة تحرير أژواد عن الساحة، وتوزيع النفوذ بين أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد، وخلق حالة من الفوضى في بماكو بعد أن تبين أن قائد الانقلاب عاجز عن تحقيق ما كانت تعلق عليه من آمال، فتحملت بذلك مسؤولية في ما يجري اليوم في بماكو من فوضى سياسية وانفلات أمني، وإفلاس أخلاقي كان آخر تجلياته قتل الدعاة.
لقد كانت تصرفات فرنسا خلال سنوات ساركوزي في الإقليم عودة فجة لممارسات خلية "فرنسا - إفريقيا" التي حمت الأنظمة الفاسدة وضمنت لفرنسا الاستيلاء بأقل ثمن على خيرات تلك الدول، وخططت ونفذت معظم  الانقلابات التي أطاحت بكل من شب عن الطوق، وحاول الإصلاح في بلاده.
العلاقة بين السلطة والجريمة المنظمة
كان آخر رئيس لمالي هو الجنرال أمدو توماني توري، الذي قضى مأموريتين رئاسيتين، وهو قائد انقلاب 1991 على الجنرال موسى تراورى، حيث تفاهم مع زعماء الحراك المدني على أن يعود إلى السلطة بعد الرئيس المدني عمر كونارى، وظل مدلل الغرب لقبوله الانتظار حتى حلول فرصته، وارتبط بدوائر صنع القرار، ومنظماته المشرفة على ترسيخ أنموذج النظام الغربي للحكم في القارة، وترميم ما تهرأ منه، مثل مركز كارتر والمعهد الأمريكي للديمقراطية، وغيرهما من المراكز والمنظمات الممولة من مؤسسات الغرب، وأصبحت البلاد أحد أكبر متلقٍ للمساعدات الخارجية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ومن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بصورة فردية، لتكون واجهة في غرب إفريقيا، ومضرب مثل في الحكم الرشيد المسالم، الزاهد في السلطة! حيث لا يملك الرئيس حزبا وبالمقابل لا يواجه معارضة، وإنما الجميع في أغلبيته، مما خلق فراغا سياسيا: لا نقاش ولا جدل ولا حوارا، الكل حر في الانهماك في شأنه الخاص، على حساب قضايا الوطن. وفي هذا الجو انتشرت الجريمة المنظمة: التهريب والاتجار بالمخدرات والسلاح واختطاف الرهائن والهجرة السرية، وكلها شكلت أنشطة مربحة للمتنفذين في الحكم.
كان التهريب قد انطلق ابتداء من تسعينات القرن الفائت من الدول المجاورة ذات المنافذ البحرية: موريتانيا وسنغال وغينيا وساحل العاج وغانة وتوغو وبنين ونيجيريا والجزائر، أو البعيدة كليبيا والمغرب، وشمل في مراحله الأولى السلع المختلفة من مواد غذائية مدعومة (في ليبيا والجزائر) ومحروقات (جزائرية) وأدوية، وملابس وسيارات ... وخاصة السڴائر التي ساهم تهريبها إلى حد كبير في ظهور شبكات المخدرات. وقد ازدهر في أسواق شمال أفريقيا في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، بسيطرة قلّة من اللاعبين الكبار. وزوّدت تلك المستوردة منها عبر موريتانيا جزءاً كبيراً من الأسواق الجزائرية والمغربية، في حين تم توجيه تلك المستوردة عبر كوتونو في بنين ولومي في توغو، عبر النيجر وبوركينا فاسو، إلى ليبيا والجزائر. وأطراف هذه التجارة الفاعلون هم موزّعوها القانونيون، الذين يستوردونها من مناطق التجارة الحرّة مثل دبي، بدل الدول المصنعة لها مباشرة .
إن دوافع تهريب السلع وتجارتها فروق الأسعار بين الدول وتجنّب الرسوم والضرائب، وجرت بتواطؤ من فاعلين في المؤسسات الجمركية، قبل أن تنتشر في مختلف الإدارات المعنية، وتتغلغل في أجهزة الأمن والرقابة وفي قوات الجيش، وتصعد إلى الصفوف العليا في المؤسسات الحاكمة لبعض هذه الدول.
و ما أن حلت الألفية الجديدة حتى حلت المخدرات محل البضائع القانونية، وتدفقت بسرعة من مصدريْن رئيسييْن: جنوب أمريكا عبر موانئ دول غرب إفريقيا: الكوكايين، وصمغ الحشيش من المغرب عبر موريتانيا أساسا، وأصبحت مالي أكثر الدول المتلقية لهذه السموم، وفي منطقتها الحدودية مع الجنوب الشرقي الموريتاني أقيم أشهر مركز لهذه الأنشطة هو أمگدي.
ومع قيام تمرد ضباط طوارق في الجيش المالي في كيدال سنة 2006 ضد الحكومة المتهمة بعدم الوفاء بالتزاماتها المتكررة، ظهرت على السطح الصراعات بين شبكات تهريب المخدرات، وبينهم والمجموعات المهيمنة على المنطقة التي تسعى لفرض إتاوات على المهربين، الذين تفاحش غناهم ومعه بطرهم. وهكذا أصبح الإقليم وما جاوره بؤرة بؤرة لتجارة المخدرات وتوزيعها الذي يغطي المشرق حتى السودان ومصر والسعودية ودول الخليج، وأنحاء من أوروبا.
وقد دخلت حكومة بماكو على الخط بعد تمرد 2006 "فحرضت قادة بعض الجماعات ضد جماعات أخرى، واعتمدت على قبائل محددة للإبقاء على منطقة الشمال تحت السيطرة. ولمواجهة قبيلتي إيفوقاس وإيدنان اللتين ينتمي إليهما المتمردون تحالفت القيادة المحيطة بالرئيس أمادو توماني توري، مع المتمردين المنافسين، وخاصة منهم القيادات المنتمية إلى قبائل البرابيش والامهار العربيتين، وكذلك إلى قبائل إيمغاد الطارقية.
في بعض الأحيان كان المسؤولون في الدولة يتدخلون بشكل مباشر، كما فعل المقدم لمانه ولد ابوه (ولد محمد يحيى) - وهو ضابط في جيش مالي له علاقات وثيقة مع رئيس جهاز أمن الدولة - خلال اشتباك وقع في أغشت 2007 بسبب شحنة كوكايين، حيث رتّب عملية إعادتها مقابل مبلغ مالي كبير، كما شجعت الحكومة شخصيات عربية بارزة من مناطق تنبكتو وگاوو على تشكيل مليشيات لحماية مصالحها التجارية، وذلك ضمن تعبئة الزعماء العرب لمحاربة المتمرّدين؛ وترأس هذه القوات مؤقتا ضباط من الجيش المالي، هو العقيد محمد ولد ميدو.
ويمكن ملاحظة العلاقة بين الوجهاء المحليين والدولة ورجال الأعمال، وتجارة المخدرات في شحنة الكوكايين الضخمة المفترضة، التي تم نقلها في نومبر 2009 إلى شمال مالي على متن إحدى الطائرات، التي هبطت في منطقة تاركنت، شمال گاوو. ويعتقد أن وجهاء الأمهار على الأرجح – كما يقول صحفي جزائري على صلة بدوائر الأمن - هم الذين تعاملوا معها، وعلى رأسهم عمدة البلدة.
وقد وصلت التوتّرات إلى ذروتها في يناير 2010، عندما استولت مجموعة مسلحة مكونة من أفراد من قبيلتي إيفوقاس وكنته على شحنة كوكايين كبيرة كان ينقلها مهربون متحالفون مع الحكومة من قبيلتي إيمغاد والأمهار، الذين ردوا بخطف زعيم كنتي في منطقة گاوو.
كان لمثل هذه الصراعات المرتبطة بالتهريب بُعد سياسي أوسع أيضاً. فشقّة الخلاف التي كشفها الحادث الأخير ترتبط بالانقسام بين حلفاء القيادة في مالي وأعدائها. وعلاوة على ذلك، كانت قبيلتا الأمهار وإيمغاد تابعتين تاريخياً لقبيلتي كنته وإيفوقاس، على التوالي. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تندلع فيها صراعات تنطوي على تنافس بشأن علاقة التبعية. فقد اندلعت اشتباكات خلال التسعينات، حتى بعد انتهاء تمرّد الطوارق.
وقد وقعت عملية مشابهة في منطقة تنبكتو، ونجحت الشخصيات المرتبطة بتهريب المخدرات في الضغط على قيادة مالي لإنشاء منطقة إدارية منفصلة (تاودني) وعدة مناطق جديدة في سياق عملية إصلاح إداري تم اعتمادها قبل اندلاع التمرّد الأخير مباشرة. وبالإضافة إلى ذلك، تم في كثير من الأحيان استثمار الأرباح المتحققّة من التهريب في الماشية والبنية الأساسية المرتبطة بها، مثل الآبار، ما أفضى إلى تأجيج التوتّرات بين المجتمعات على الموارد" .
وكان المراقبون الخارجيون وخاصة المسؤولين في الدول المانحة يغضون الطرف عن علاقات المسؤولين في الدولة والقادة السياسيين بالشبكات الإجرامية حتى لا يضعوا النظام في ورطة، وهم يعولون عليه في مواجهة الحركات المسلحة، التي يوليها صنّاع القرار في الغرب كل اهتمام بوصفها منظمات إرهابية. يتواصل

الثلاثاء، 11 سبتمبر 2012

كلمة محمد محمود ودادي رئيس لجنة منسقية المعارضة الديمقراطية المكلفة بالقضايا الدبلوماسية في ندوة المنسقية حول الوضع في مالي


انطلاقا من مسؤوليتها في الدفاع عن قضايا الوطن والمواطنين وهمومهم، والسهر على مصالح موريتانيا الداخلية والخارجية، وأمنها واستقرارها، ومن ثم علاقاتها الخارجية خاصة مع الدول الشقيقة والصديقة، أحرى المجاورة- تابعت منسقية المعارضة الديمقراطية باهتمام وقلق عميق الأزمة التي اندلعت بداية العام الحالي في جمهورية مالي الشقيقة، وآلت إلى فقدان الحكومة المركزية السيطرة على ولايات إقليم أزواد الذي تشكل مساحته أكثر من ثلثي مساحة مالي.
وقد ارتأت المنسقية أن تنظم ندوة، تقدم فيها رؤيتها حول الأزمة وأبعادها وتداعياتها على موريتانيا والجوار بل الإقليم كله، إذ لا ننسى أن لنا مع جمهورية مالي علاقات متشعبة قلّ نظيرها بين الجيران، حيث نرتبط معها بحدود تبلغ حوالي 2 237  كلم، معظمها مع إقليم أزواد، أما الروابط التاريخية الضاربة في أعماق الزمن، فحدث ولا حرج، حيث انتمينا كلانا إلى إمبراطوريات وممالك عظيمة كغانه والتكرور التين كان مهدهما موريتانيا، وجزئيا: ملي (مالي) فيما بعد، ثم جمعتنا دولة المرابطين التي امتدت شرقا وجنوبا حتى النهر، كما تبعت أطرافٌ من الحوض الحالي لنفوذ إمبراطورية السونغي، وفي الزمن المعاصر خضع البلدان معا للاستعمار، وشكلا مع آخرين اتحاد غرب إفريقيا، بل ظل الحوض جزءا من السودان الفرنسي، حتى سنة 1944.
وتتشعب العلاقات، لتغطي نواحي الحياة كافة: من تمازج عرقي واجتماعي وترابط ديني وثقافي، وتشابك مصالح: تجارية وزراعية وتنموية، سواء بين المواطنين أو بين الحكومات، خاصة بعد إقامة منظمة استثمار نهر سنغال التي تُعد أنجح مشروع مشترك في الإقليم بل في القارة؛ ورغم خلافات عابرة ظلت العلاقات مع مالي في جميع الحقب، وتحت مختلف الأنظمة مثالية، لما يُسندها من روح محبة حقيقية وتقدير متبادل.
ولكل من ولايات ڴيديماغا، والعصابة والحوضين الغربي والشرقي، وحتى ولايات الوسط والشمال علاقات ذات خصوصية مع مثيلاتها المالية المقابلة، ومن ضمنها ولايات أزواد، بسبب الانتماء إلى الفضاء الصحراوي الواحد الذي يجهل الحدود، ليظل مهدا للهجرات القادمة من موريتانيا وإليها، منذ أكثر من عشرة قرون، فتشكلت وشائج قربى، لم تؤثر فيها التقلبات المختلفة ولا المسافات البعيدة.
وخلال الأزمات المتعاقبة من سنة 1963 التي عاشها إقليم أزواد، وحتى تلك التي انفجرت في التسعينات ثم بداية الألفية الجديدة، كان الحضور الموريتاني بارزا سواء على صعيد إيواء المتضررين من تلك الأزمات، أو  في المساعدة على الوصول إلى حلول سلمية برغبة الطرفين: الحكومة، والحركات المنتفضة؛ وفي المقابل كان لمالي دورها المشهود في تطويق الأزمة بين موريتانيا وسنغال سنة 1989، إضافة إلى إيوائها للاجئي موريتانيا.
ستتناول هذه الندوة اليوم جوانب رئيسية من الأزمة في مالي، بشقيها المتعلقين:
 أولا: وضع إقليم أزواد الذي هو مشكلة داخلية لجمهورية مالي، يجب على الماليين أنفسهم التصدي لها - عبر الحوار - بما يضمن تسويتها بشكل دائم، وحسبما ترتضيه الأطراف المعنية، التي تتقاسم: الدين والثقافة والمصالح المشتركة، وفوق كل شيء الانتماء لوطن واحد، عريق في حضارته، وذي تاريخ مجيد. أما دورُ موريتانيا فهو الاستعداد لتقديم كل العون للطرفين، بما يسهل الوصول إلى الحل المنشود.
أما الشق الثاني فهو الإرهاب، الذي عشّش في الإقليم بعد أن مهدت له شبكات التهريب المختلفة التي بلغت أوجها بدخول أنواع المخدرات المغذية لإفريقيا والشرق الأوسط وأوربا، فتغلغلت بنفوذها في المجتمعات المحلية والمجاورة، وحتى في مكامن السلطة في بعض دول الإقليم، ومن ثم التحمت بالمجموعات الإرهابية الوافدة، بعد التقاء مصالحهما، فأصبحت مصدرا جديا لتهديد أمن واستقرار الدول المجاورة، وفي طليعتها موريتانيا، مما يتطلب معالجة حكيمة واستعدادا يضمن الدفاع عن الحدود على الحدود والداخل، بعيدا عن الأجندات الخارجية، وصراعات القوى الأجنبية ومصالحها.
وستعالج الندوة الأزمة في أربعة محاور:
الجذور والأطراف،
الرهانات والآثار
موريتانيا والأزمة،
الدروس المستخلصة لموريتانيا،





نواكشوط في ‏19‏ شوال‏ 1433/ 5 شتنبر 20012

السبت، 1 سبتمبر 2012

أوراق عن أژواد/ الثامنة/ الترابط مع ليبيا


طاب المقام في ليبيا مع بداية ثمانينات القرن الماضي لطوارق مالي والنيجر وعربهم وبعض الموريتانيين، حيث وجدوا قواسم مشتركة مع المواطنين الليبيين، الذين عاملوهم بكرم وتسامح، وهو دين اشتهروا به على مدى التاريخ، حيث اكتشف الطرفان بعضهما البعض، فالوافدون بحاجة إلى العناية والاستقرار، وبعض القبائل الليبية متعلقة بأصول تربطها بالساقية الحمراء والصحراء، من هجرات مرتدة من تلك الأصقاع بعد ما وصلت مع الهجرة العربية (الهلالية) الشهيرة التي تشكل معظم عرب ليبيا.  وفي ظل النظام القبلي الذي هو أساس الحكم في ليبيا آنذاك، كانت القبائل تتبارى في تعزيز مراكزها ضمن التنافس على السلطة والنفوذ، حيث اكتشفت أن للكثير منها صلات "قرابة" مع قبائل البيظان، وأرادت أن تعزز وضعها حتى ولو لم يتحقق من ذلك – في النهاية - الشيء الكثير. ويتكئ بعضهم في ذلك إلى روايات قديمة عن وجود صلات قرابة، كما الحال بين أولاد سْليمان في فزان وعشيرة أولاد سْليمان البربوشية، بينما يرى معظم الباحثين أن الأمر لا يعدو تشابها في أسماء القبائل العربية على طول أوطانها من الجزيرة العربية إلى الصحراء الكبرى. ومن ذلك في ليبيا وموريتانيا: البحيحات، أولاد إبراهيم، البريكات، الجعافرة، أولاد موسى، اليعاقيب (إيديقب) أولاد خْليفة، بنو داوود (أولاد داوود) بنو رزق (أولاد رزق) أولاد عطية، أولاد سالم، الشويخات، أولاد الشيخ، الطرشان، الفقرة، أولاد عبد الله، العبيدات، أولاد عْلي، العيايشة، القواسم، القرعان (الڴرع) أولاد مبارك، أولاد ناصر (أولاد الناصر) أولاد وافي (أولاد الوافي) الهماملة (الهمال) أولاد يونس... ومن هذه القبائل مَن اسمه واحد لكنه يختلف في الأصل إذ البعض عربي والآخر أمازيغي.  أما بالنسبة للطوارق فالأمر أسهل، لأن الرابطة لم تنقطع بين مَنهم في شمال الصحراء وفي جنوبها.
 وساهمت القرابة هذه في اكتساء هجرة الطوارق الماليين والنيجيريين وعربهم في الثمانينات طابعا جديدا شجع على التحاق العديد من أسرهم بهم في ليبيا، حيث فُتح لهم باب التجنيس كبقية المواطنين العرب، باسم "الجنسية العربية" وهي غير الجنسية الليبية، التي اقبل عليها الكثيرون من مواطني الدول العربية الذين لم يجدوا فرصا في التمتع بالإقامة وحق العمل، فتوفرت لهم الخدمات نفسها التي يتمتع بها الليبيون: التموين ومجانية التعليم، ومزاولة بعض المهن، ولكن مع التجنيد في القوات  وقوات الأمن، الذي يؤمن نظريا الحماية والنفوذ، لكن هذا الوضع لم يشمل في الحقيقة من الأژواديين والأژواڴيين سوى من ليست لهم أوراق ثبوتية تخولهم الإقامة أو البطاقة القنصلية، التي كان الليبيون يتحاشون مضايقة حمَلَتها. إلا أن هناك البعض الذي حصل على الجنسية الليبية، منهم مجموعة الطرشان النيجيرية ذات الأصول العربية الحسانية المهاجرة من موريتانيا إلى أژواد ومنه إلى النيجر، فقد التحمت بالمجموعة الليبية التي تحمل الاسم نفسه واستقرت في سرت إلى اليوم.


الدخول إلى ساحات المعارك


 مع استمرار أوضاع مالي والنيجر في التدهور اقتصاديا واجتماعيا، ازدادت الاضطرابات والتناحر على السلطة في باماكو ونيامى وتوالت الانقلابات العسكرية أو محاولاتها، فتفاقمت أحوال العرب والطوارق بصورة أكثر، واستفحل البؤس، واتسعت الهوة بينهم وحكومتيْهما، التين لم تثق يوما في ولائهم، وظلت على مدى عقود من الزمن تتهمهم بتربص الدوائر بها، حتى قبل انخراطهم في عملية التجنيد. وقد تسارعت الأحداث ليتحقق ما كان مجرد اتهام، عندما دخلت طرابلس في حلبة الصراع الإقليمي والدولي المعقّد، ضمن طموح العديد من القوى الناشئة إلى ملء الفراغ، الذي تركه لاعبون كبار في الساحة، بعد أن ظلوا مهيمنين عقودا من الزمن، كمصر والهند ويوغوسلافيا (على رأس كتلة عدم الانحياز) وتزامن ذلك مع انفجار صراعات دامية في المشرق العربي بسبب محاولة إسرائيل القضاء على الثورة الفلسطينية، التي كانت في أوج عنفوانها، حيث نجحت في إرغامها على الانغماس في الشؤون الداخلية للدول المجاورة الضعيفة، فدخلت في صراعات دموية جانبية مع الأردن الذي كادت تطيح بنظامه، ثم مع لبنان الذي كانت فاعلا رئيسيا  في حربه الأهلية، ثم المشكلة الأفغانية مع غزو الاتحاد السوفيتي لها، وتفجر الثورة الإيرانية، التي كانت مقدمة للحرب المدمرة العراقية الإيرانية.
وقد أغرى هذا الوضع ليبيا التي كانت في أوج انفتاحها على العالم الذي جعلها قبلته، لما لها من ثروات نفطية هائلة، واستعداد لوضعها في خدمة أهدافها السياسية الطموحة، وخاصة محاربة السياسات الامبريالية، فانجرت إلى الدخول في مواجهات مسلحة مع مصر (سنة 1977) والسودان (1976) وتونس (قفصة 1980) وتشاد، وانخرطت في العديد من بؤر الصراع: جزر مورو بجنوب الفلبين، وباناما ونيكاراغوا، وأيرلندا الشمالية، مع أنها طرف – بشكل أو آخر - في حرب الصحراء الغربية.
  في هذه الظروف كانت طرابلس في حاجة ماسة إلى العنصر البشري، لاستعمال ترسانتها الضخمة من الأسلحة، فاتجهت إلى تجنيد الكثير من المواطنين العرب – كما سلف - الذين جذبتهم الحملة الدعائية الكبيرة التي تقدم ليبيا كقلعة للحرية والمقاومة ضد الاستعمار والامبريالية والصهيونية والميز العنصري، بديلا لمصر جمال عبد الناصر، وهو ما استجاب له في بداية الأمر الكثيرون، وغالبيتهم تنتمي إلى منظمات سياسية معارضة لأنظمة قائمة في الدول المجاورة، مما عرّض طرابلس لضغوطٍ وتشهيرٍ إعلامي، أدى في النهاية إلى تسريح غالبيتهم، أو وضعهم مباشرة تحت تصرف منظماتهم، كما الحال في السودان وتشاد. وكان ممن بقي في جيشها من المجندين مجموعات من شباب أژواد وأژواڴ عربا وطوارق، شاركوا في عمليات خارجية، من أهمها الانضمام إلى مقاومة الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982؛ ضمن قوات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة، حيث دخلوا في مواجهة مع الإسرائيليين في الجنوب اللبناني، الذي قاتلوه ببسالة، فسقط منهم عدد من الشهداء، ثم اتجهوا إلى الشمال لينسحبوا مع الجيش السوري إلى دمشق، لكنهم لم يلبثوا أن لجؤوا إلى السفارة الموريتانية - على رأسهم إياد آڴ غالي - لتؤمّن لهم الحماية والعودة إلى وطنهم. وقد حاول مبعوث من أمين الجبهة العام أحمد جبريل أن "يستعيدهم" لكنهم رفضوا الاستمرار في التعامل مع هذه الجبهة، التي اتهموها بالخَوَر، وأفرادَها بالفسوق، وهم الذين جاءوا "دفاعا عن الإسلام والمسلمين"، وقد رتبت السفارة سفرهم إلى الجزائر، الأقرب إلى وطنهم.
ومع اشتداد الصراع بين ليبيا وتشاد سنة 1987، ووقوع قوة ليبية كبيرة في أيدي التشاديين في "فايا لارجو" و"وادي دوم" وشلل قوات الدروع والدبابات، وبروز فاعلية القوات الخفيفة المشكلة من سيارات الدفع الرباعي، المجهزة بالرشاشات والمدافع، اتجهت ليبيا إلى هذا السلاح، وإلى تكوين كتائب سريعة الحركة، كان فرسانُها بلا منازع الأژواديين، مثل الصحراويين قبل ذلك بسنوات. وقد شارك العديد منهم في معارك منطقة آوزو محل النزاع بين ليبيا وتشاد، قبل أن تعود إلى الأخيرة في تسعينات القرن الماضي بقرار من محكمة العدل الدولية التي أنيط بها الملف؛ كما شارك عدد محدود من رجالهم في العمليات المسلحة في أزواڴ وخاصة أژواد من سنة 1990 – 2006 ضد حكومتيهما، مع العلم أن السلطات الليبية ظلت حريصة على منع انتقال أعداد مؤثرة من الرجال والسلاح إلى الدولتين، التين ارتبطت معهما بعلاقات قوية، وجعلتهما حجر الزاوية في سياستها بإفريقيا التي استثمرت فيها طاقات سياسية واقتصادية كبيرة، فألجمت أي محاولة جادة تنطلق من أراضيها لتهديد الحكومتين، إلى جانب معطى آخر هو احترام تفاهما مع الجزائر بأن لا تتعدى حدودا معينة في نشاطها داخل الإقليمين، حتى أنها أغلقت قنصليتها في كيدال بعد فترة قصيرة من فتحها بضغط جزائري.
وقد أثبتت الأحداث اليوم أن أژواديي ليبيا كانوا يحضرون أنفسهم من زمن طويل لانتهاز أول فرصة تتاح، للعودة إلى صحرائهم وتحقيق حلم الأجيال بإقامة كيان ينعمون فيه بما حُرموا منه خلال نصف قرن:الحرية والكرامة، واستعادة الهوية الثقافية والدينية، وقد توفرت هذه الفرصة بعد اندلاع ثورة فبراير الليبية سنة 2011، وقيام حلف شمال الأطلسي بشن غاراته المدمرة، حتى سقط النظام، مما قلب الموازين في الإقليم وفي المنطقة بأسرها. فانتقل الأزواديون دون عناء إلى وطنهم ليطردوا الجيش المالي بسهولة مذهلة، وبتنسيق كامل ومحكم بين الفصيليْن الرئسييْن حركة تحرير أزواد، وحركة أنصار الدين، ويحكموا سيطرتهم على الإقليم المترامي الأطراف، ومدنه وبلداته، وذلك رغم التباين في الأهداف المعلنة، فالأولى علمانية لا ترضى بغير الاستقلال بينما تعلن الثانية أن مطلبها تطبيق الشريعة الإسلامية ولا تتحدث عن الانفصال. يتواصل

السبت، 25 أغسطس 2012

أوراق عن أژواد/ السابعة/ الهجرة إلى ليبيا

ما أن حلت سنة 1973 حتى بدأت الهجرة الأژوادية تتدفق على ليبيا، قادمة من النيجر التي يشاطرها الحدود، والتي ظلت ملجأ سكان الإقليم، كلما ألمت بهم المحن، مثل الاحتلال الفرنسي، الذي هرب الناس في وجهه من أژواد فضاعفوا عدد العرب والطوارق الأصليين فيه، وازدادت اللحمة والترابط، حتى تحول النيجر رغم ظروفه الصعبة إلى ملجإ ومنفذ لهؤلاء المشردين.
إن الوجهة الليبية لسكان جنوب الصحراء ليست سوى استمرار لصلات تاريخية قطّع أوصالها الاحتلال وحدُوده المصطنعة، فجنوب الصحراء يرتبط بعلاقات صمدت طيلة عصور الصحراء المناخية والسياسية الضاربة في أعماق التاريخ، من أبرزها في العصر الحديث، ما ارتبط بفتوحات الإسلام على يد عقبة بن نافع الفهري لفزان بجنوب ليبيا، في العقد الثالث من القرن الهجري الأول، حيث استقر الإسلام في بواديها وواحاتها وكَوَرها، فتشكل من سكانها العرب والكور أول الدعاة التجار إلى جنوب الصحراء: النيجر ونيجيريا ومحيط بحيرة تشاد، وذلك قبل انتشار الإسلام في أجزاء من غرب الصحراء بقرنين. يضاف إلى هذه الصلة روابط الدم بين طوارق جنوب الجزائر وأزود وأزواڴ، الذين هم امتداد لإخوتهم في ليبيا، كما لم تنقطع جسور التواصل بين مدن القوافل الليبية المتاخمة للصحراء كغات وغدامس المرتبطة بتادمكت وتغازة وتنبكتو، إلى حد أن لبعضها مضافات تستقبل قوافل الأخرى. كما انتقلت قرونا بعد الفتح من ليبيا إلى نهر النيجر وبحيرة تشاد، مجموعات من القبائل العربية المصاحبة للهجرة الهلالية، واستقرت بها، وهي اليوم موزعة بين الدول المحيطة بالبحيرة بفعل تقسيم الاستعمار: النيجر وتشاد والكاميرون ونيجيريا.
ومع بداية التسرب الاستعماري إلى نهر النيجر والصحراء الكبرى ونهر شاري ووسط إفريقيا مع نهاية القرن 19 وبداية 20 اصطدمت قواته بأتباع الحركة السنوسية المنتشرة في النيجر وتشاد وشمال السودان، حيث حملت زعامة الحركة في بلدة الجغبوب بالشرق الليبي (بعد انطلاقها من موطنها الأول في الجزائر) لواء الجهاد، فأرسلت النجدات المعززة بالسلاح والعتاد والمؤن إلى تلك المناطق، التي تحالف فيها السكان المحليون من أتباع السنوسية أو زعماء العشائر الطارقية والعربية والكورية الغيورين على دينهم، فخلد التاريخ ذكر رجال منهم قادوا الجهاد ضد القوات الفرنسية والإيطالية وكبدوها خسائر فادحة، من أمثال محمد كاوصن أحد أبطال قبيلة أولَمدَنْ الطارقية الشهيرة بقوة الشكيمة، ورباح بن فضل الله الذي استشهد في تشاد.
وجعل هذا الوضع الفرنسيين يعبئون طاقاتهم لمواجهته عبر قواتهم الغازية من غرب إفريقيا، وبعض الوحدات المرابطة في الجزائر ومخابراتهم (قنصلياتهم) في طرابلس وتونس واسطنبول، في خضم  حملةِ دعايةٍ وتشهير ضد الطريقة السنوسية، حتى أن من يقارن بين الحرب على ما يسمى الإرهاب اليوم يتخيل أن التاريخ يعيد نفسه.

ليبيا ترحب


  كانت غالبية هؤلاء من الشباب، جزء منها من مواطني النيجر، حيث دخلوا جميعا بدون صعوبة، سواء من له أوراق ثبوتية أو بدونها، وهم الأكثر، ونزلوا وسط ترحاب من المواطنين والسلطات في ولاية فزان التي ظلت تحتضن العدد الأكبر منهم في مراكزها الحيوية كعاصمتها سبها، ومدن بْراك وأُباري وغات ومرزڴ، قبل أن ينتقل منهم البعض إلى مدن الغرب: طرابلس والزاوية وغيرها في الجبل الغربي، بل انتشروا في الأرض الليبية وصحرائها الشاسعة، حيث تعمل شركات الإنشاءات ومشاريع الزراعة. وبشكل عام، ورغم بداوتهم، تكيف أكثرهم مع العمل اليدوي في المرحلة الأولى، لكن مشكلة تحويل الأموال إلى أهلهم في الصحراء شكلت مفاجأة غير سارة، إذ تشترط الشركات إقامة رسمية، لتسليم الرواتب ورسائل التحويل إلى البنوك، وهو أمر بالغ الصعوبة، إذ لم تكن أكثرية الأژواديين تحمل جوازات سفر، فأصيب الكثيرون بخيمة الأمل، وزهدوا في العمل، وتحولوا إلى أنشطة طفيلة أقل تعبا ومن ثم أقل مردودية، كرعي الماشية أو "الحجاب" أو التيفي" على هامش الحواضر العمالية وبعض المراكز الحضرية، قبل أن يتولى معظم ذلك النشاط فيما بعد، صغار تجار البيظان من موريتانيا ومالي الذين انتقلوا من دول إفريقيا الغربية طمعا في الربح في السوق الليبية الواعدة.

  موريتانيا: تعاطف في الداخل وحماية في الخارج


عبّر العديد من الموريتانيين بمن فيهم المسؤولون عن عواطف جياشة تجاه الأژواديين في محنة الجفاف المشتركة، لكن من لجأ منهم إلى موريتانيا في السبعينات كان محدودا، وكان ينتمي في الغالب إلى المنطقة الغربية الجنوبية للإقليم المتاخمة للحوضين، وقد شاطرهم الموريتانيون عيشهم واستقروا كمواطنين لا يتميزون إلا للضرورة، منهم شباب متعلمون – على قلتهم – وُظّفوا رسميا في الإدارة، ووجوه سياسية وتجار ورجال دين من حفظة القرءان ونسّاخ مصاحف وكتب يكسبون من هذه المهنة العريقة التي كانت في طريق الانقراض في موريتانيا، بعد الاتصال بمراكز الطبع والنشر في العالم. أما الغالبية فكانوا مواطنين عاديين تحللوا في النسيج الاجتماعي المحلي.
   وفي هذه الفترة أقيمت علاقات دبلوماسية بين موريتانيا وليبيا، في خضم الانفتاح الليبي الجديد على العالم العربي، وفتح الحدود لاستقبال مواطنيه للدراسة والعمل، وبصورة خاصة أعطت طرابلس عناية كبرى للموريتانيين الذين انبهرت بثقافتهم العربية الإسلامية، وبسياسة الحكومة الموريتانية، خاصة في التقارب والتعاون العربي الإفريقي، فاعتبرتها الأكثر أهلية لتكون بوابتها إلى إفريقيا جنوب الصحراء، وهو ما جنت طرابلس ثماره على الفور بفتح سفارات في أغلب عواصم المجموعة الناطقة بالفرنسية بتدخل من الرئيس المختار بن داداه، بينما دعمّت طرابلس نواكشوط اقتصاديا بفتح مصرف تجاري على الفور وتقديم وديعة إلى البنك المركزي، ومواكبة خطوات تأميم ميفرما، في وقت كانت وطأة الجفاف قاسية على البلاد، وعُقدت اتفاقيات في مجالات عدة، إحداها تنظّم العمالة والإقامة، ليفتح الباب أمام الطلبة والعمال وحركة التنقل المختلفة.
  وشمل الاهتمام الليبي بيظان أژواد والصحراء الغربية، وتصادف ذلك مع مولد حركة تحرير الصحراء الغربية ضد الاحتلال الإسباني التي تحولت فيما بعد إلى جبهة بوليزاريو، فاغتنمها الليبيون فرصة ليكونوا أول من يقدم لها الدعم العسكري الذي استخدمته في عملياتها الأولى ضد المحتل، وكان ذلك انطلاقا من نواكشوط، حيث ظل المسؤولون الليبيون يتندرون ب"الطيبة  الموريتانية التي مكّنتهم من توريد أسلحة في صناديق مخصصة لكتب المركزين الثقافيين الليبيين في نواكشوط وأطار"!.

وما أن حلت سنة 1975 حتى أصبح وجود الموريتانيين وبيظانهم خاصة مع إخوتهم من الصحراء الغربية ومالي والنيجر وطوارقهما ظاهرة ملفتة في ليبيا، مشكلين جالية واحدة، بعد ما فُتحت المعاهد الوسطى الليبية والجامعات للطلبة من جنوب الصحراء، ووصل عدد من معلمي القرءان الكريم وأئمة المساجد، ثم العمال وصغار التجار، وجاء الصحراويون في مجموعات من تلاميذ المدارس الابتدائية ثم الإعدادية، وبعض المتمرنين على السلاح (1975-1976) أما غالبية الجالية فتنتمي إلى أژواد وأژواڴ وجلها من العمال اليدويين. وبالإضافة إلى الترابط الثقافي والعرقي واللغوي بين هذه المجموعة، زادت اللحمة عبر العمل في الورشات والسكن ضمن التجمعات العمالية في المناطق الصحراوية، يعيشون المشاكل نفسها، فتوحدت المواقف إزاء المطالبة بالحقوق لدى الشركات، ومنها بصورة أساسية قضية تحويل ريع عملهم المضني، وكذلك الدفاع عن النفس خلال الاحتكاكت مع مجموعات أخرى أو مع أرباب العمل.  
وقد تمكنوا جميعا في المراحل الأولى من المحافظة على الصورة المشرّفة التي يحملها الليبيون عنهم، حسب توزيع صدر عن بعضهم: "الموريتانيون مسالمون، حملة علم وحفظة قرءان، والصحراويون أصحاب قضية، والماليون والنيجيريون – بعربهم وطوارقهم – مطارَدون، وهم  رجال، لا يكذبون ولا يخافون".
  ولأسباب عديدة تعيّن على موريتانيا أن تكون الوصية على هذه الجالية، من ذلك وجود سفارة في طرابلس، والارتباط بعلاقات قوية مع ليبيا، من ضمنها الامتيازات المخولة لمواطنيها بموجب اتفاقية قنصلية، ثم لانعدام أية حماية لمواطني مالي الغائبة عن الساحة، والمتبرئة من مواطنيها عمليا، وتوتر علاقات حكومة النيجر مع مواطنيها العرب بعد محاولات انقلابية اتهمتهم بالمشاركة فيها، بينما ظلت مرجعية الصحراويين موريتانيا، إلى أن اندلعت حرب الصحراء في بداية 1976.
وقد سهل الرعاية الموريتانية لهذه الجالية كون السفراء معتمدين لدى الدول المجاورة (النيجر وتشاد) وكذلك بوجود قنصلية عامة في مدينة سبها (1978) قبل أن تحول لاحقا إلى نْيامى، إلى جانب الشُّعبة القنصلية في السفارة بطرابلس، وتوفير الإمكانيات لموظفيهما بالتجوال في أماكن وجود العمال في الداخل ومتابعة قضاياهم مع الجهات المعنية، كما وفرت أسباب الإقامة لهم والتمتع بريع عملهم، وتحويله إلى بلادهم عبر البنوك التجارية، بعد ما عانوا من تغوّل الشركات الأجنبية، كما حمتهم من أخطار التجنيد، المخيمة على المقيمين العرب وبعض الأفارقة المجاورين ومن كل من ليست له حماية قانونية، وذلك في أوج حروب تحرير، أو صراعات داخلية في عدة مناطق من القارة وفي العالم العربي (فلسطين، لبنان، تشاد، السودان، جنوب إفريقيا، الصحراء الغربية). وكانت بداية الإقبال على الأوراق الموريتانية ما توفّر لعمالها من تسهيلات بفضل الاتفاقية القنصلية، التي على أساسها أصدرت السفارة بطاقة، أجازتها دوائر الأمن والجوازات ووزارة العمل، فزالت – إلى حد كبير – العديد من العقبات، رغم الجو المضطرب الذي تمر به الإدارة المحلية آنذاك نتيجة التغيرات السياسية والاجتماعية المستجدة.
وعندما علم أهل أژواد وأژواڴ بالأمر اتجهوا صوب السفارة، على اعتبار أنهم موريتانيون، خاصة منهم البيظان، فاشتُرط في المرحلة الأولى حملهم لأوراق ثبوتية موريتانية كالجواز، الذي كانت غالبيتهم تحصل عليه ـ في فترة زمنية قياسية - من إدارة الأمن في نواكشوط، التي تسلمه لكل من يقدم الملف المعهود الذي يحصل عليه الناس دون عناء، عبر وسطاء من الأقارب أو السماسرة؛ وهكذا بدأت عملية انتشار الأوراق الموريتانية الثبوتية، وتحددت أثمان كل منها (جواز السفر، قيد الازدياد، شهادة الجنسية، البطاقة الشخصية، شهادة الإقامة، شهادة الخلوّ من السوابق، رخصة قيادة السيارة). وكانت التعليمات الدائمة إلى السفارات – التي بحوزتها بعض الجوازات قبل أن تُنزع منها صلاحيات الإصدار- تأمر بتسليمها لكل من يقدم ذلك الملف.
وبعد سنة 1978 تفاقمت الظاهرة، التي كانت مقتصرة على الراغبين في العمل بليبيا، حيث لم تكن مسألة الهجرة إلى أوروبا قد بدأت، مما جعل العديد من السفارات تنبّه إلى خطورتها، ومنها بعثة طرابلس مصطحبة مع الرسائل – أحيانا - نماذج من وثائق رسمية موقعة ومختومة  من جهات عدة تابعة للإدارة الإقليمية، دون ملء خانات الأسماء الشخصية أو العائلية - للتحذير من مخاطر العملية وضرورة وقفها. وعلى كل كانت موريتانيا في تلك المرحلة من أواخر الدول التي "طُرحت" أوراقها في "السوق" وأقلها عددا، ضمن منظومة إفريقيا الناطقة بالفرنسية التي ظلت جوازاتها إلى عهد قريب تباع بمبالغ زهيدة، وفي طليعتها مالي وزائير ونيجيريا، عكس دول لها خصوصيات تحافظ عليها، كالكاميرون والغابون وأنغولا ورواندا وبوروندي، أو الدول العربية الإفريقية أو معظم تلك الناطقة بالإنڴليزية، ولم تول الحكومات المعنية أهمية بالموضوع إلا مع تنامي الجريمة العابرة للحدود، واندلاع الحروب ضد ما سمي الإرهاب. 
 

البطاقة القنصلية (بناءً)


   انتشرت بين الموريتانيين والماليين والنيجيريين – كما سلف - البطاقة القنصلية، سواء كانوا من حملة الأوراق الموريتانية، أو من غيرهم، ممن تقطعت بهم السبل، فشوهد العديد من حملتها – مؤشّرة - في جدة، إذ كان بعض السفراء السعوديين يُغمضون أعينهم حتى "لا يَرُدّوا الموريتانيين عن زيارة الحرمين الشريفين".
وترسخت أسطورة "بناءً" - كما سُميت - دون مثيلاتها التي تُصدرها سفارات الدول المرتبطة باتفاقيات مشابهة بليبيا، ولم تعد حكرا على من أنشئت لهم، بل وُجدت لدى بعض الجنسيات الأخرى، حيث تُنتزع صورة صاحبها وتوضع محلها صورة المالك الجديد، وطبقت شهرتها آفاق ليبيا وحيزها.
وَوَجدت جميع الأطراف ضالتها في البطاقة، حيث وفرت على السلطات الرسمية الليبية الجهد، بوجود مرجعية قانونية مسجلة عليها، وأصبحت تضع عليها الإقامة بدل الجواز أحيانا، وذلك بلا شك رغبة في تسهيل أمر حملتها، ومساعدتهم؛ هذا في وقت لا تشكل فيه البطاقة وثيقة دولية معترفا بها، تكون لها تبعات قانونية محرجة، حيث لا تضم سوى النص التالي:
"بناء على الاتفاقية القنصلية الموقعة بين الجمهورية الإسلامية الموريتانية والجمهورية العربية الليبية بتاريخ 13 شعبان 1393 هـ الموافق 10 سبتمبر 1973م والتي صدرت بقانون ليبي رقم 99 لسنة 1973م والتي تنص على حق مواطني الدولتين في مزاولة كل المهن والأعمال الحرة في كلا البلدين والدخول بدون تأشيرة - دخول وإقامة بدون حدود- إذا كانوا يحملون وثائق سفر معترف بها.
ترجو السفارة الموريتانية بطرابلس من السلطات والهيئات في الجمهورية العربية - كل في ما يخصه – السماح بالإقامة والعمل لحامل هذه البطاقة".


وقد استمر الإقبال على "بناء" إلى عهد قريب، رغم جميع المحاولات التي قامت بها السلطات الموريتانية، خاصة بعد انتفاء جل الأسباب التي ساهمت في انتشارها مثل وقف حرب الصحراء سنة 1978، وفتح سفارة لمالي في طرابلس سنة 1980.  يتواصل
 









السبت، 28 يوليو 2012

"أوراق" عن أزواد/ السادسة/ سنوات التيه

لم ينته عهد موديبو كيتا في نونبر سنة 1968 إلا بعد أن دمر أزواد اقتصاديا واجتماعيا وسلبه أغلى ما يملكه أهله: العزة والكرامة، فأذلّ كبراءه واستباح حرماته، ليحل الغضب محل الكبرياء الذي عرف به الأزوادي بين جيرانه، وساد اليأس ربوع أرض موسى آگ أمستن وفيرهُن والميون بن حمادي، ومحمد بن رحال. وكادت الحِلَلُ العامرة بمخيماتها الكثيفة المتراصة تختفي، ومعها قطعان الإبل البيضاء والشقراء البديعة، والأغنام الوافرة، كما اختفت سباقات الهُجن الذلولة التي لا تحتاج سوى تحريك الخطام، دون عصى أو نسعة، المزينة بالرواحل ذات القرابيس العالية، المبطنة بالأحزمة الجلدية والشعرية المتدلية، بألوانها المزركشة الأصيلة، تحت رجال أشداء ذوي قامات فارعة، بدراريعهم السوداء والبيضاء، وعمائمهم الطويلة، الممتشقين بعزة وكبرياء سيوفا قهرت الطامعين على مدى التاريخ، وضاعت مكتبات عريقة غنية بنفائس الكتب، في خضم هذا التشتت غير المسبوق.
وأصبح مصير الإقليم بيد الضباط والجنود الذين كانوا يد الناظم البائد الباطشة، بعد أن استولوا على السلطة، التي لم تغير في شيء، اللهم تفكك النظام الاشتراكي الذي ظل يحسب على الناس أنفاسهم ويقيد تصرفهم بأموالهم. وسار الجديد على خطى القديم باعتبار أزواد منطقة أمنية، أهلها محل اتهام دائم بالإرهاب والتمرد.
وصادفت هذه الفترة موجة الجفاف الماحق التي ضربت منطقة الساحل والصحراء سنوات متتالية، في سابقة لم يعرفها السكان المعتادون على دورة القحط لا تدوم إلا سنة أو سنتين، يتبعه الغيث والخصب، كما تبينه  حوليات المراكز الحضرية. فلم يكن السكان إذن مؤهلين لمواجهة الكارثة، وتصرفوا كما كانوا يفعلون، ينتقلون بمواشيهم إلى المناطق الرطبة وضفاف الأنهر، ليقايضوا منتجاتهم بالمواد الغذائية، لكنهم وجودوها منكوبة، إذ لم يكن أحد يدرك أبعاد الظاهرة ولا مداها.
ومن هنا كان على الحكومة المالية أن تتصرف بسرعة وفعالية كما في الدول المجاورة: موريتانيا وبوركينا فاصو وبنسبة أقل النيجر. ففي موريتانيا مثلا أُعلن النفير العام وسخرت الحكومة ما لديها من إمكانيات لمواجهة الجفاف، فنشطت الإدارة والحزب الحاكم ووسائل الإعلام لمؤازرة السكان وتنويرهم بأبعاد ما حل بهم، وطلبت العون الخارجي، ثم اتخذت على الفور إجراءات عملية، تمثلت في إلغاء العشر نهائيا عن الماشية، ووضع برنامجي عرف بخطة التدخل السريع، اضطلع بتوزيع المواد الغذائية والدوائية وحفر الآبار، تحت إشراف وزير الصحة والشؤون الاجتماعية د. عبد الله بن ابّاه، الذي وضعت تحت تصرفه تجهيزات القوات المسلحة والحرس ورجالهما، فأضافوا الفعالية على هذا الجهد الوطني، خاصة بإشرافهم على أسطول السيارات الذي جاب المناطق المتأثرة، المنتشرة في غالبية أرض الجمهورية، حيث تحقق المطلوب في الوقت المناسب، رغم انعدام الطرق المعبدة في تلك الحقبة. وكانت تلك بدايات إقامة مفوضية الأمن الغذائي، التي اعتبرت تجربة رائدة استنسختها عدة دول.   
أما في أزواد فكانت وطأة الجفاف أشد لأن الحكومة لم تكن مبالية به، فتركت السكان يواجهون مصيرهم وحدهم، لا مرشد ولا معين، واستمرت في جباية الضرائب على الماشية، ومتابعة الرقابة على تنقل السكان بحيث لا يحق لهم الاقتراب من ضفاف النهر إلا بمسافات معينة؛ ولم تصل سنة 1973 حتى نفق جل الثروة الحيوانية، وانتشرت المجاعة في أصقاع الإقليم، وأصبح الناس عاجزين عن توفير ضرورات الحياة الأساسية من مأكل وشرب وملبس وسكن، فتشتت الرجال لا يلوون على شيء في الاتجاهات كافة بحثا عن وسيلة لإنقاذ من تركوا خلفهم من نساء وصبوة وعجائز في مخيمات قرب الآبار، والتي أصبح جلب مائها غاية في الصعوبة بعد نفوق الماشية؛ وكان الرجل يصحب معه في رحلة الميرة تلك كل ما بقي له من دواب صالحة للبيع، وبقايا الأثاث: من زرابي وطنافس ومصنوعات جلدية وخشبية، كما جلبوا معهم كتبا مخطوطة نفيسة وحلي النساء ومقتنياتهن،  بل إن البعض اضطر أن يترك عياله في العراء ويأخذ الفروة ليقايضها بمواد غذائية.
ومع طول الوقت أصبحت أكثرية الأسر معدمة، لا تملك ما تقايض به الطعام،  فمات الآلاف من الناس جراء الجوع وتبعاته، غالبيتهم في مخيمات، ذكر شهود عيان أنها كانت مسكونة بأناس شديدي الهزال، لا يقدرون على الخروج إلى الزائر، خوفا من الظهور في أوضاع غير لائقة، منها العري، مما يذكّر بما مرت به العديد من المناطق الموريتانية إبان الحرب العالمية الثانية، تحت الاحتلال، حيث لبس الناس الجلود وقطع الوبر المحاكة للخيام، حتى أن بعض الأحياء البدوية كانت لا تملك إلا دراعة واحدة يتعاقب عليها رجاله، عندما يتعين على أحدهم الخروج للقاء زائر؛ وقد قيل في السبعينات إنه لو لم تكن لموريتانيا حكومة مركزية لمات جل سكانها الذين كانت نسبة البدو منهم – حينها - تزيد على 70% .
  وكنا في منكبنا البرزخي نسمع بعض الأخبار عن مأساة أهل أزواد التي تناقلتها بعض وسائل الإعلام الغربية المكتوبة، من بينها صحيفة "لموند" الباريسية التي نشرت سلسلة مقالات للكاتب الصحفي الشهير "فيليب دَكْرينْ" عن الجفاف في مالي،  نقل فيها صورا مخيفة عن حالة السكان في أزواد، متهما الحكومة المالية باستخدام الجفاف لتصفية حساباتها السياسية والأمنية مع السكان، وانتقد سكوت العالم عن هذا الوضع البشع.
 وقد قامت مجموعة من الشباب في نواكشوط بتكثير هذه المقالات وتوزيعها على الرئاسة والوزارات، مطالبين بوقفة تضامن مع الأشقاء الأزواديين، ومستنكرين الصمت على أفعال باماكو. لكن  أحدا لم يتحرك، لإنقاذ هذا الشعب أو التخفيف من محنته، لا في الدول الغربية ولا الأمم المتحدة أو التجمعات الإقليمية،  حيث لم تكن الصحوة العالمية لمؤازرة حقوق الإنسان وحماية الأقليات التي شاهدناها مع بداية انهيار الكتلة الشيوعية قد ولدت بعد؛ وذلك رغم وجود حركة تكاد تكون كونية يقودها اليسار، تدافع عن حركات التحرير في إفريقيا وفلسطين وفيتنام.
  والّفتة الوحيدة للدول الغربية ومنظماتها الإنسانية، كشركات الصليب الأحمر، كانت إرسال بعض المواد الغذائية والأدوية إلى حكومة باماكو، دون مراقبة على تصريفها، فاستحوذ عليها الضباط القابعون في السلطة، واستمرت المعاناة وتشعبت، ولم يلتفت أحد إلى أن جوهر المشكلة السياسي،  حيث تصر حكومة على ممارسة التمييز على جزء من شعبها، والتخلي عن مسؤوليتها اتجاهه، مما يتنافى وواجباتها الدستورية وما يفرضه القانون الدولي والشرائع السماوية وتقاليد التعايش والمساكنة.

بداية التشرد

   اكتملت هجرة سكان البادية إلى المدن والمراكز القريبة من مصادر المياه، وانتشرت الفروات وأقفاص الحشائش، على أطرافها، بينما أصر قسم منهم على البقاء في الأرض التي ألفوها، حيث بقيت على الألسن مآثر بعض رجالهم من تجار ووجهاء وزعماء قبائل بذلوا أموالهم وجاههم لمد يد العون لهم حتى تحسنت الظروف مع الثمانينات، ومن هؤلاء السلطان بادي بن حمادي.
 ولم تحرك السلطات الرسمية الحضرية ساكنا لتخفيف وطأة المجاعة على الواصلين الجدد، فآثر عدد من أرباب الأسر مواصلة الرحلة إلى الجنوب داخل مالي وإلى الدول المجاورة لها في الجنوب، وهكذا ظهرت في شوارع لاگوص وكوتونو ولومى وأكرا وأبدجان مشاهد غير مألوفة، وهي تسول صبية غرباء، بنين وبنات، بزي غير مألوف وبشرة بيضاء ينتشرون على قارعة الطريق، وعند إشارات المرور، لإعالة ذويهم الذين اختاروا أشجار الشوارع مأوى لهم.
واتجهت أعداد من سكان المناطق الوسطى والشمالية مثل أُولمدَنْ والهگار وإفوقاس وكل السوق إلى مدن الجزائر الجنوبية كتمنغاست، وعشائر الاتحادية الكنتية إلى آدرار، حيث يرتبط هؤلاء وأولئك مع سكان الجنوب بوشائج القربى، فاستقبلتهم السلطات الجزائرية برحابة صدر، وآوتهم ووزعت عليهم بطاقة التموين التي انتشرت بين الأزواديين إلى عهد قريب، إضافة إلى ذلك لقي هؤلاء الترحاب من أبناء عمومتهم الجزائريين، فشكلوا جسرا للتواصل، وانتعشت التجارة وتبادل المنافع مع الإقليم وبدأ الاطمئنان يعود إليه بعد أن أصبحت أجزاء منه في حكم التابع للجزائر، التي ظلت على مدى سنوات لاعبا لا غنى عنه بالنسبة للمناطق المتاخمة لجنوبها، ونجحت في إقامة علاقات متميزة مع أولائك الجيران، رغم تربص الدوائر الغربية وإعلامها للصيد في المياه العكرة بين دول شمال إفريقيا وجنوبها. يتواصل





الأحد، 22 يوليو 2012

"أوراق" عن أزواد /الخامسة/ موديبو: كما قَتَل قُتل

اغتالت القوات المالية أهم زعماء مالي السياسيين، و"انتصر على ثوار إفُوقاس في أزواد بقتل حاميهم الروحي"  فاكتملت للرئيس موديبو كيتا الزعامة الداخلية، وغادر باماكو بأيام قليلة بعد مجزرة 30 يونيه 1964 إلى القاهرة لحضور ثاني قمة قارية تحت مظلة، منظمة الوحدة الإفريقية الناشئة، واقتسم بذلك الأضواء المسلطة على الزعماء الأفارقة الثورين، إضافة إلى الهالة التي أحاطت به عن دوره في النزاع الحدودي الجزائري المغربي. فانعقدت القمة تحت رئاسة الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان في أوج سطوع نجمه المحلي والدولي، حيث استقبل في السنة نفسها القمة العربية وقمة عدم الانحياز.
  وقد انعقدت القمة في مقر جامعة الدول العربية، في جو من المظاهر الاحتفالية المبهرة، حيث صادفت إحياء ذكرى  ثورة 23 يوليه المصرية، التي بذلت فيها القاهرة طاقاتها لتظهر أنها أهم زعيمة للقارة والعالم العربي، ومع الهند ويوغوسلافيا إحدى الدول التي تقود حركة عدم الانحياز، الرافض لمنطق تبعية الغرب أو الشرق؛ كما وقع في هذه المناسبة ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية الذي كان مفكرون وكتاب قد انكبوا على إعداد مسودته، منهم محمد حسنين هيكل، ودعي القادة إلى حفل بهيج في نادي الضباط بالزمالك، غنت فيه أم كلثوم أول لحن لمنافسها الكبير محمد عبد الوهاب أنت عمري، بتقديم أشهر مذيع مصري جلال معوض، كما أقام عبد الناصر حفل عشاء في حدائق قصر القبة، غنت فيه فرقة رضا، المؤلفة من شباب الجامعات، وأقيم في مدينة نصر عرض عسكري وشبابي وعمالي دام عدة ساعات، ظهر فيه من الأسلحة ما اعتُبر ردعا لكل من يحاول التحرش بمصر.
  وقد جرت محاولة لتعكير جو القمة هي وصول رئيس وزراء الكنغو اليوبولدفيل موسى تشومبى إلى القاهرة فجأة ليحتل مقعد بلاده، غير أنه أعيد من حيث أتى لأن مصر والدول الثورية لا تعترف به، لكن حادثا آخر جرى بطريقة لم تكن في الحسبان، كان له وقع مؤلم على بعض الوفود، وخاصة مالي وغانا وغينيا.
  هذا الحدث هو الكلمة التي ألقاها رئيس جمهورية مدغشقر، فيلْبيرْ تْسيرانانا، في جلسة علنية بحضور جميع القادة، حيث كال سيلا من النقد اللاذع لمعظم الحاضرين وخاصة الزعماء الثوريين، تارة بروح مرحة وابتسامة عريضة، ومرات أخرى بجد وصراحة مفرطة، وأعلن منذ الوهلة الأولى أنه لا يشاطر الحاضرين تفاؤلهم بمستقبل القارة في ظل القمع وعدم التسامح، ضاربا المثل بكل من رؤساء غينيا وغانا ومالي بأسمائهم، حيث يتشدقون بالثورية والحرية، وهم يقتلون مواطنيهم، ذاكرا بالاسم زعيمي مالي الذين لم تجف دماؤهما بعد: سيسوكو وديكو. ثم هاجم النفاق السياسي، خاصة في العلاقات الدولية، قائلا "إن تماديتم في هذا النهج سأبقى في جزيرتي خارجا عن إفريقيا، ولن أكون مثلكم في النفاق، فرئيسي هو الجنرال دڴول، وسأذهب إليه مباشرة لأقدم له تقريرا عما جرى هنا، ولتكونوا مثلي وتعترفوا بأنكم تابعون لموسكو وپيكين". وقد ظل الحاضرون - بمن فيهم أعضاء الوفود والمدعون والصحفيون - مشدوهين بين غاضب مستنكر، ولاه مستمتع بهذا الخطاب الطويل، وهو ما انطبق على الرؤساء أنفسهم، خاصة موديبو ونكروما الذيْن كانا في أشد حالات العبوس، يلوح أعضاء وفديهما خلفهما بأيديهم استنكارا للحديث، أما عبد الناصر وبورقيبه وسنغور والحسن الثاني، وغالبية الرؤساء فقد تابعوا بإصغاء وكأنهم في مسرح، بينما لم يتحكم المختار بن داداه وأحمد بن بله، وعدد من الوزراء من كبت نوبة الضحك التي أصابتهم.
**
 مرت الأيام وسقط موديبو كيتا بانقلاب عسكري في 19 نونبر 1968، وأُرسل إلى كيدال، ليعيش في ظروف صعبة، وإن كانت أقل قسوة مما عرفه معارضوه السياسيون الذين اختارها لهم، ثم ينتقل إلى الجنوب الأكثر رطوبة، ويتقابل في أحد الأيام أمام المستشفى مع زعيم آخر ما يزال في السجن من بقايا ضحاياه، هو محمد آعلي آڴ الطاهر الأنصاري، الذي خاطبه "موديبو، هل عرفتني، أنا محمد آعلي الذي كنت أعطيك - وأنت تلميذ - البسكويت وغيرها من الأشياء التي تطلب". وكان أبشع إرث تركه موديبو كيتا لبلاده ما استنّه من نهج في القمع والتعذيب والتصفية الجسدية لمعارضيه، حيث اتَبعت ذلك الطغمة العسكرية التي أطاحت به، وأصبح النهج السائد، وكان هو ضحيته عندما مات مسموما في 16 ميه 1977، وكاد النهج هذا يقضي على طبقة الضباط الحاكمين، المتكالبين على السلطة والمال.

 

نهاية النقيب بازاني في تاودني

مما يستدل به الأزواديون على احتقارهم من قادة مالي جعل مدنهم التاريخية وبلداتهم الشهيرة أوكارا لأنواع الفجور والإجرام، ومراكز للتعذيب السياسي والقتل الممنهج خارج القانون، حتى اقترنت أسماؤها بذلك، بعدما كان صيتها كمواطن للعلم والذهب والملح، ملهم أطماع العالم منذ القرون الوسطى. ومن هذه البلدات سبخة تاودني التي يقع فيها مركز إداري وعسكري للحكومة المالية، على بعد 700 كلم شمال تنبكتو، في نقطة هي الأخفض عن سطح البحر في الكرة الأرضية، عوض البحر الميت. وحوض تاودني يطلق في المصطلحات الجيولوجية على مساحات شاسعة تشمل مناطق من أزواد وتمتد إلى داخل الشمال الشرقي الموريتاني؛ أما صحراؤها فهي قاحلة لا شجر فيها ولا نباتا، تُصليها شمس حارقة في غالبية أيام السنة، حيث تكون درجة الحرارة صيفا 50 درجة نهارا و40 – 45 ليلا، وفي الشتاء 20 – 30 درجة في النهار و10 – 0 ليلا. "يوجد عند السبخة بئر يدعى حاسي صالح نسبة إلي أحد الصالحين، ماؤه مالح، يقع على عمق 50 مترا، وهو في هذه البلاد القاحلة المعطشة هدية من السماء، غير أن الإنسان لا يستطيع شربه إلا بخلطه مع مواد تساعد على تحمله، مثل تجمخت، (دقيق ثمر شجر الدوم [التيدوم] الذي ينبت في الجنوب] أو دقيق الذرة أو اللبن الرائب، والاغتسال به يحتاج إلي مجهود وتقنية، حيث يمنع رغوة الصابون، ولا يزيل وسخ الجلد، مما يحتم خلطه بالحصى الصغير مع الدلك بقوة، ومع ذلك فلولا الماء المالح لمات الناس من الإمساك.
  يحكم مركز تاودني نهاية 1969 الملازم كانتاو الذي يجمع بين يديه كل السلطات، وقد أوكل إليه أمر مجموعة من السجناء العسكريين المحكوم عليهم بالمؤبد، وعلى رأسهم النقيب بازاني (ديبيى سيلاس جارا) الذي عرفناه فيما سبق قائدا للكتيبة التي أشرفت على سحق التمرد في أزواد، حيث أدين بمحاولة انقلاب بعد أن كان واليا لمحافظة موبتي.
 كان الملازم كانتاو الآمر الناهي، ومهمته الأولى هي إلحاق أشد أذي بالسجناء المحكوم عليهم بالإعدام أو السجن المؤبد الذين أرسلوا إليه في هذا الفضاء السحيق الذي لا صلة له بالعالم الخارجي. وللدلالة على الاستبداد الذي يفتخر به، أعطى لنفسه اسم إمبراطور قبيلة الموشي (مورو نابا) الذي بيده مصير شعبه حياتا أو موتا، لا يعرف قاماتهم إذ لا يراهم إلا راكعين له. وكان سجناء تاودني يسجدون لسيدهم الجديد حتى يغمسوا رؤوسهم في الأرض مقبلين جزماته، فيرد عليهم التحية بوضع قدمه بقوة على رقبة كل منهم حتى تندس في التراب. وإضافة إلي الأوامر التي تلقاها من قادته استعمل كل ما خطر بباله من بطش ليجعل نهايتهم الموت البطيء. وهكذا بدء بتحويلهم إلي عمال لقلع عدائل الملح الذي يتولاه عادة عمال محترفون يتوارثون المهنة، التي تعد قاسية جدا خاصة على من لا يعرفونها.
توجد في تاودني – كما سلف - سبخة غنية بالملح المتراص في حصائر منتشرة تحت طبقة رملية، يقوم عمال مهرة بتقطيعه في شكل قوالب لتكون جاهزة للنقل، لذلك اعتبر الضابط أنه العمل الأكثر مشقة والأنسب لسجنائه، وهو في الوقت نفسه فرصة لتطييب خواطر رؤسائه بإهدائهم ملحا وفيرا بلا ثمن. وقد فتح مقلعا بعيدا عن أمثاله ليفسح المجال أمام جنوده لإطلاق النار على السجناء في حالة محاولتهم الهروب، دون أن يعرض العمال العاديين للمخاطر.
كان المقلع الجديد يبعد 12 كلم عن المركز العسكري، يرغم السجناء على قطعها جريا على الأقدام المثقلة بالسلاسل في ذهابهم وإيابهم، يسبق ذلك ضرب مبرح عند الساعة الرابعة صباحا، موعد الانطلاق، وتكون العودة عند الساعة الخامسة مساء، تتخلل ذلك استراحة لمدة 5 دقائق لتناول الغداء المكون من حب الدخن الأحمر الغليظ نصف مهروس، لم يكتمل نضج طبخه، وهو عادة يحضر كعلف للماشية، لكنه هنا يخلط بالتراب والحصى ( أرارش).
ولم يكن للسجناء الحق بعد يومهم الشاق المنهِك في فسخ ثيابهم مما جعل أجسادهم مرتعا للقمل، مثل ثيابهم المتلبدة من شدة الاتساخ، والتصاق الحصباء المبللة بالعرق، والتي تتساقط قطعا بعد أن تيبس. وليس للمصابين منهم الحق في استراحة مرضية، بل يحملهم زملاؤهم إلي المقلع يوميا، ويتركون مرميين في الرمضاء، حيث تصل الحرارة 50 درجة في الظل. وكان الملازم كانتاو فخورا بما حققه من نجاح في استخراج عدائل الملح، وبما أصاب السجناء من ضعف وهزال.
وفي أحد أيام يناير، وكتهنئة للسجناء بالعام الجديد، أعادهم إلي المقر قبل الوقت المحدد، مما جعلهم يتصورون أنها لفتة رحيمة، خاصة وأنهم سقطوا على الأرض عند وصولهم لشدة الإرهاق. وعند مدخل المركز كانت هنالك عديلة ضخمة نقش عليها كانتاو "أول عديلة استخرجها الخونة يوم فاتح يناير 1970 " ثم غادر وهو يتضاحك قائلا "لقد أعدتكم باكرا اليوم حتى تقرؤوا في ضوء النهار هذا الإهداء المنقوش تكريما لكم، وسترسل في الغد إلي القيادة العليا كشاهد على إسهامكم الفعال والطوعي في الإنتاج الوطني في جنة الصحراء هذه.
واتهم الملازم السجناء بمحاولة رشوة أحد جنوده الذي فرض عليه شهادة زور، ثم أبلغهم أنهم سيعدمون في الصباح، مما كان له وقع لا يتصور عليهم، وعند بزوغ الشمس ساقهم مقيدين بالسلاسل ليجدوا أمامهم فرقة إعدام مؤلفة من 12 جنديا، مما صدق لديهم تهديده، وبادرهم: بأنهم لم يذكروا خلال استجواباتكم السابقة جميع شركائهم في المؤامرة، لذلك سيترك لهم حياتهم إن أقروا بهم اليوم، لكنهم رفضوا الرد عليه كرجل واحد، فكانت العقوبة الضرب بأعقاب البنادق والعصي حتى تقيئوا الدماء.
ثم جاءت للملازم فكرته السادية لبناء حصن في تاودني مساحته 2500م2، فأمر السجناء بحفر بئر بأدوات قليلة وصنع 100 طوبة من الآجر لكل منهم في اليوم، وهو رقم خيالي لهؤلاء التعساء الذين يُختم يومهم - في معظم الأحيان - بالضرب المبرح على كل الأعضاء دون أي سبب.
وكان البناء يسقط كل ما علا، لجهل السجناء بالمهنة؛ وعندما مات أحدهم من شدة التعذيب والجوع رفض دفنه في مقبرة السبخة لأن السجناء لا يستحقون ذلك، وأمر بإلقائه بعيدا عن الحصن، مما جعل زملاءه يعودون إليه في الصباح ليدفنوا ما أبقت بنات آوى من جثمانه.
وكان الملازم يتباهي بإنجازه ويقارنه بالأهرامات التي بناها الفراعنة في مصر [إنه إنجاز سيخلده له التاريخ] وهو ما تحقق بالفعل حيث بقي الحصن الذي أملته إرادة رجل مريض بجنون العظمة، وكلما هبت عاصفة رملية يكون صداها في الحصن كصياح وأنين كل من سكب دمه على طوب هذا البناء المنحوس. وقد تناوب على قيادة المركز العديد من الضباط وصف الضباط، لم يكونوا كلهم بقسوة الملازم كانتاوو إلا أن الأقل تشددا يلقون العقاب، وأقله الحرمان من ترفيع الرتب حتى التقاعد.
ورغم اكتشاف مؤامرة جديدة لإسقاط النظام في باماكو واعتقال القادة السابقين من قبل الرئيس إلا أن من حلّوا محلهم كانوا أشد قسوة من سابقيهم الذين نقل العديد منهم إلي تاودني ليعيشوا مع من لم يمت من السجناء الأولين.
وقد رفعت عن النقيب "بازاني" الرقابة، إذ لم يعد يشكل أي خطر، وأصبح من بين السجناء مجرد جثة متحركة، ، بلا لحم ولا أعصاب، مثل التمساح الجائع، يزحف في تنقله على يديه وركبتيه، تاركا خلفه خطوطا عميقة في الرمال الحارة، من السهل اقتفاؤها، ولم يعد له من العمل إلا جمع بعر الإبل حول البئر لغرض الطهي، وقد قيل إنه فقد ملكة النطق بسبب العزلة الطويلة التي يعيشها، لكنّ من نظر إليه عن قرب يرى بقية بريق، يشكل نوعا من التحدي لسجنائه. وأمام تعلقه بالحياة تجرأ الملازم كانتاو على اتخاذ قرار خطير العواقب أمام التاريخ وهو قتل هذا السجين الذي كان بلا شك الهدف النهائي، وطريقة التنفيذ متروكة له. وفي أحد الأيام استدعى الجندي الطارقي الشاب سالم آگ سالم ودار بينهما الحديث التالي:
-    سالم، هل صحيح أن أخاك قتل في التمرد (1963)؟
-    مع الأسف نعم، وما أزال أبكيه، يرد الجندي
-    هل ترغب في معرفة ظروف موته، وقاتله؟
-    إنني أجهل ذلك، لأنني كنت صغيرا. آه! نعم، وألف نعم! إنني أحب أن أعرف القاتل، وبالي لن يهدأ قبل أن أقوم بالواجب المقدس، وهو الثأر لدم أخي
-    اسمع جيدا. كان أخوك شجاعا بين الشجعان، عرفته قبل التحاقه بالتمرد، وأنتما تتشابهان كقطرتي ماء. لقد قاتل من أجل قضيته، لكنه فوجئ مع صحبه بسبب وشاية، خلال عملية تمشيط للجيش، دارت خلالها معركة دامت صبيحة يوم كامل. وبعد استنفاد ذخيرتهم استسلم أخوك ومن بقي معه من زملائه، ورفض بإباء الإدلاء بأية معلومات لمحققي شعبة مخابرات المكتب الثاني رغم التعذيب، بل بلغت به الجرأة حد البصق في وجه الضابط الذي يستجوبه، موقعا بذلك صك موته.   
كان أخوك يفضل الموت وسلاحه بيده، لكن ذلك لم يقع، بل أجبر على شرب قدح من البنزين، ثم صُب على جسده المتبقي وهو حوالي ثلاث لترات، وأشعلت النار فيه، لكنه قابل ذلك برباطة جأش ودون أن يطلب الرحمة أو يُصدر أنينا، حتى انفجر كالقنبلة. وكان الضابط يتوقف بين الحين والآخر ليرى وقع سرده التمثيلي للقصة على الشاب الطارقي، الذي انكسر قلبه وهو يبكي بدموع حارة، يرتعد جسمه من شدة الغضب والتأثر، منتظرا أن يكشف له اسم القاتل، إلى أن سمع: هل أنت مستعد لأخذ الثأر لأخيك، عندما أكشف لك عن اسمه؟
-    كيف لي بذلك؟ وكيف الوصول إليه؟
-    قل لي نعم، وسأقدمه لك في الدقائق الآتية
-    نعم! نعم! نعم!
-    حسنا، ياصغيري، إنه النقيب بازاني، الذي قتل أخاك الأكبر
-    لا، هذا غير ممكن!
-    إنها الحقيقة بعينها، وهو الآن نحو البئر، فهو لك ، سالم، افعل به ما تريد، اقت...
ولم ينتظر سالم إتمام الجملة فطفق يعدو مطلقا صيحة الحرب، كما يفعل أجداده عند الهجوم، وفي الطريق أخذ دبوسه متجها إلى البئر، مواصلا صيحاته. وفي هذا الوقت كان النقيب بازاني الذي يجهل أن مصيره قد تحدد، منبطحا على وجهه فوق الرمال الساخنة يضع يديه على رقبته ليقيها حر الشمس، بعد أن أنهى نوبته من جمع البعر حول البئر. وقد وصلت إلى مسامعه صيحات سالم كالصدى، ولم تكن غريبة عليه، لأنه سمعها من قبل في الجبل، ثم بدأت تقترب، غير أنه كان يجهل أنها موجهة إليه.
وقريبا من جسد النقيب بازاني المشوه توقف سالم، والنقيب رافع رأسه إليه ليتلقى في الوجه حثوة تراب أثارتها جزمات الجندي الطارقي الشاب، وعند فتح عينيه عرف دبوس الراعي البدوي المخيفة ذات الرأس المدبب كراس الثعبان، وتكشيرة في وجه سالم، ورغم حاله الضعيف حافظ النقيب على بعض الوعي، مدركا أن أجله قد حان، حيث نزلت العصا على رأسه ليلفظ أنفاسه الأخيرة. وبذلك فقد النقيب ديبيى سيلاس ﭽارا، "أسد الصحراء" سيد كيدال، قاهر التمرد، معركته ضمن صراع الحياة الفانية.  
  إن الإرادة الإلهية تسوقنا حتما – فرادى وجماعات – إلى مصيرنا، كما ساق النقيب بازاني معه إلى هذه النهاية المفجعة معظم الضباط وضباط الصف الذين شاركوا في حملة كيدال، خاصة الملازم سام الذي أشرف على قتل فيلي دابو سيسوكو وحامادون ديكو وقاسم تورى، فقد ظلت تربطهم سلسلة خفية حتى الرمق الأخير من حياتهم" . يتواصل