السبت، 25 أغسطس 2012

أوراق عن أژواد/ السابعة/ الهجرة إلى ليبيا

ما أن حلت سنة 1973 حتى بدأت الهجرة الأژوادية تتدفق على ليبيا، قادمة من النيجر التي يشاطرها الحدود، والتي ظلت ملجأ سكان الإقليم، كلما ألمت بهم المحن، مثل الاحتلال الفرنسي، الذي هرب الناس في وجهه من أژواد فضاعفوا عدد العرب والطوارق الأصليين فيه، وازدادت اللحمة والترابط، حتى تحول النيجر رغم ظروفه الصعبة إلى ملجإ ومنفذ لهؤلاء المشردين.
إن الوجهة الليبية لسكان جنوب الصحراء ليست سوى استمرار لصلات تاريخية قطّع أوصالها الاحتلال وحدُوده المصطنعة، فجنوب الصحراء يرتبط بعلاقات صمدت طيلة عصور الصحراء المناخية والسياسية الضاربة في أعماق التاريخ، من أبرزها في العصر الحديث، ما ارتبط بفتوحات الإسلام على يد عقبة بن نافع الفهري لفزان بجنوب ليبيا، في العقد الثالث من القرن الهجري الأول، حيث استقر الإسلام في بواديها وواحاتها وكَوَرها، فتشكل من سكانها العرب والكور أول الدعاة التجار إلى جنوب الصحراء: النيجر ونيجيريا ومحيط بحيرة تشاد، وذلك قبل انتشار الإسلام في أجزاء من غرب الصحراء بقرنين. يضاف إلى هذه الصلة روابط الدم بين طوارق جنوب الجزائر وأزود وأزواڴ، الذين هم امتداد لإخوتهم في ليبيا، كما لم تنقطع جسور التواصل بين مدن القوافل الليبية المتاخمة للصحراء كغات وغدامس المرتبطة بتادمكت وتغازة وتنبكتو، إلى حد أن لبعضها مضافات تستقبل قوافل الأخرى. كما انتقلت قرونا بعد الفتح من ليبيا إلى نهر النيجر وبحيرة تشاد، مجموعات من القبائل العربية المصاحبة للهجرة الهلالية، واستقرت بها، وهي اليوم موزعة بين الدول المحيطة بالبحيرة بفعل تقسيم الاستعمار: النيجر وتشاد والكاميرون ونيجيريا.
ومع بداية التسرب الاستعماري إلى نهر النيجر والصحراء الكبرى ونهر شاري ووسط إفريقيا مع نهاية القرن 19 وبداية 20 اصطدمت قواته بأتباع الحركة السنوسية المنتشرة في النيجر وتشاد وشمال السودان، حيث حملت زعامة الحركة في بلدة الجغبوب بالشرق الليبي (بعد انطلاقها من موطنها الأول في الجزائر) لواء الجهاد، فأرسلت النجدات المعززة بالسلاح والعتاد والمؤن إلى تلك المناطق، التي تحالف فيها السكان المحليون من أتباع السنوسية أو زعماء العشائر الطارقية والعربية والكورية الغيورين على دينهم، فخلد التاريخ ذكر رجال منهم قادوا الجهاد ضد القوات الفرنسية والإيطالية وكبدوها خسائر فادحة، من أمثال محمد كاوصن أحد أبطال قبيلة أولَمدَنْ الطارقية الشهيرة بقوة الشكيمة، ورباح بن فضل الله الذي استشهد في تشاد.
وجعل هذا الوضع الفرنسيين يعبئون طاقاتهم لمواجهته عبر قواتهم الغازية من غرب إفريقيا، وبعض الوحدات المرابطة في الجزائر ومخابراتهم (قنصلياتهم) في طرابلس وتونس واسطنبول، في خضم  حملةِ دعايةٍ وتشهير ضد الطريقة السنوسية، حتى أن من يقارن بين الحرب على ما يسمى الإرهاب اليوم يتخيل أن التاريخ يعيد نفسه.

ليبيا ترحب


  كانت غالبية هؤلاء من الشباب، جزء منها من مواطني النيجر، حيث دخلوا جميعا بدون صعوبة، سواء من له أوراق ثبوتية أو بدونها، وهم الأكثر، ونزلوا وسط ترحاب من المواطنين والسلطات في ولاية فزان التي ظلت تحتضن العدد الأكبر منهم في مراكزها الحيوية كعاصمتها سبها، ومدن بْراك وأُباري وغات ومرزڴ، قبل أن ينتقل منهم البعض إلى مدن الغرب: طرابلس والزاوية وغيرها في الجبل الغربي، بل انتشروا في الأرض الليبية وصحرائها الشاسعة، حيث تعمل شركات الإنشاءات ومشاريع الزراعة. وبشكل عام، ورغم بداوتهم، تكيف أكثرهم مع العمل اليدوي في المرحلة الأولى، لكن مشكلة تحويل الأموال إلى أهلهم في الصحراء شكلت مفاجأة غير سارة، إذ تشترط الشركات إقامة رسمية، لتسليم الرواتب ورسائل التحويل إلى البنوك، وهو أمر بالغ الصعوبة، إذ لم تكن أكثرية الأژواديين تحمل جوازات سفر، فأصيب الكثيرون بخيمة الأمل، وزهدوا في العمل، وتحولوا إلى أنشطة طفيلة أقل تعبا ومن ثم أقل مردودية، كرعي الماشية أو "الحجاب" أو التيفي" على هامش الحواضر العمالية وبعض المراكز الحضرية، قبل أن يتولى معظم ذلك النشاط فيما بعد، صغار تجار البيظان من موريتانيا ومالي الذين انتقلوا من دول إفريقيا الغربية طمعا في الربح في السوق الليبية الواعدة.

  موريتانيا: تعاطف في الداخل وحماية في الخارج


عبّر العديد من الموريتانيين بمن فيهم المسؤولون عن عواطف جياشة تجاه الأژواديين في محنة الجفاف المشتركة، لكن من لجأ منهم إلى موريتانيا في السبعينات كان محدودا، وكان ينتمي في الغالب إلى المنطقة الغربية الجنوبية للإقليم المتاخمة للحوضين، وقد شاطرهم الموريتانيون عيشهم واستقروا كمواطنين لا يتميزون إلا للضرورة، منهم شباب متعلمون – على قلتهم – وُظّفوا رسميا في الإدارة، ووجوه سياسية وتجار ورجال دين من حفظة القرءان ونسّاخ مصاحف وكتب يكسبون من هذه المهنة العريقة التي كانت في طريق الانقراض في موريتانيا، بعد الاتصال بمراكز الطبع والنشر في العالم. أما الغالبية فكانوا مواطنين عاديين تحللوا في النسيج الاجتماعي المحلي.
   وفي هذه الفترة أقيمت علاقات دبلوماسية بين موريتانيا وليبيا، في خضم الانفتاح الليبي الجديد على العالم العربي، وفتح الحدود لاستقبال مواطنيه للدراسة والعمل، وبصورة خاصة أعطت طرابلس عناية كبرى للموريتانيين الذين انبهرت بثقافتهم العربية الإسلامية، وبسياسة الحكومة الموريتانية، خاصة في التقارب والتعاون العربي الإفريقي، فاعتبرتها الأكثر أهلية لتكون بوابتها إلى إفريقيا جنوب الصحراء، وهو ما جنت طرابلس ثماره على الفور بفتح سفارات في أغلب عواصم المجموعة الناطقة بالفرنسية بتدخل من الرئيس المختار بن داداه، بينما دعمّت طرابلس نواكشوط اقتصاديا بفتح مصرف تجاري على الفور وتقديم وديعة إلى البنك المركزي، ومواكبة خطوات تأميم ميفرما، في وقت كانت وطأة الجفاف قاسية على البلاد، وعُقدت اتفاقيات في مجالات عدة، إحداها تنظّم العمالة والإقامة، ليفتح الباب أمام الطلبة والعمال وحركة التنقل المختلفة.
  وشمل الاهتمام الليبي بيظان أژواد والصحراء الغربية، وتصادف ذلك مع مولد حركة تحرير الصحراء الغربية ضد الاحتلال الإسباني التي تحولت فيما بعد إلى جبهة بوليزاريو، فاغتنمها الليبيون فرصة ليكونوا أول من يقدم لها الدعم العسكري الذي استخدمته في عملياتها الأولى ضد المحتل، وكان ذلك انطلاقا من نواكشوط، حيث ظل المسؤولون الليبيون يتندرون ب"الطيبة  الموريتانية التي مكّنتهم من توريد أسلحة في صناديق مخصصة لكتب المركزين الثقافيين الليبيين في نواكشوط وأطار"!.

وما أن حلت سنة 1975 حتى أصبح وجود الموريتانيين وبيظانهم خاصة مع إخوتهم من الصحراء الغربية ومالي والنيجر وطوارقهما ظاهرة ملفتة في ليبيا، مشكلين جالية واحدة، بعد ما فُتحت المعاهد الوسطى الليبية والجامعات للطلبة من جنوب الصحراء، ووصل عدد من معلمي القرءان الكريم وأئمة المساجد، ثم العمال وصغار التجار، وجاء الصحراويون في مجموعات من تلاميذ المدارس الابتدائية ثم الإعدادية، وبعض المتمرنين على السلاح (1975-1976) أما غالبية الجالية فتنتمي إلى أژواد وأژواڴ وجلها من العمال اليدويين. وبالإضافة إلى الترابط الثقافي والعرقي واللغوي بين هذه المجموعة، زادت اللحمة عبر العمل في الورشات والسكن ضمن التجمعات العمالية في المناطق الصحراوية، يعيشون المشاكل نفسها، فتوحدت المواقف إزاء المطالبة بالحقوق لدى الشركات، ومنها بصورة أساسية قضية تحويل ريع عملهم المضني، وكذلك الدفاع عن النفس خلال الاحتكاكت مع مجموعات أخرى أو مع أرباب العمل.  
وقد تمكنوا جميعا في المراحل الأولى من المحافظة على الصورة المشرّفة التي يحملها الليبيون عنهم، حسب توزيع صدر عن بعضهم: "الموريتانيون مسالمون، حملة علم وحفظة قرءان، والصحراويون أصحاب قضية، والماليون والنيجيريون – بعربهم وطوارقهم – مطارَدون، وهم  رجال، لا يكذبون ولا يخافون".
  ولأسباب عديدة تعيّن على موريتانيا أن تكون الوصية على هذه الجالية، من ذلك وجود سفارة في طرابلس، والارتباط بعلاقات قوية مع ليبيا، من ضمنها الامتيازات المخولة لمواطنيها بموجب اتفاقية قنصلية، ثم لانعدام أية حماية لمواطني مالي الغائبة عن الساحة، والمتبرئة من مواطنيها عمليا، وتوتر علاقات حكومة النيجر مع مواطنيها العرب بعد محاولات انقلابية اتهمتهم بالمشاركة فيها، بينما ظلت مرجعية الصحراويين موريتانيا، إلى أن اندلعت حرب الصحراء في بداية 1976.
وقد سهل الرعاية الموريتانية لهذه الجالية كون السفراء معتمدين لدى الدول المجاورة (النيجر وتشاد) وكذلك بوجود قنصلية عامة في مدينة سبها (1978) قبل أن تحول لاحقا إلى نْيامى، إلى جانب الشُّعبة القنصلية في السفارة بطرابلس، وتوفير الإمكانيات لموظفيهما بالتجوال في أماكن وجود العمال في الداخل ومتابعة قضاياهم مع الجهات المعنية، كما وفرت أسباب الإقامة لهم والتمتع بريع عملهم، وتحويله إلى بلادهم عبر البنوك التجارية، بعد ما عانوا من تغوّل الشركات الأجنبية، كما حمتهم من أخطار التجنيد، المخيمة على المقيمين العرب وبعض الأفارقة المجاورين ومن كل من ليست له حماية قانونية، وذلك في أوج حروب تحرير، أو صراعات داخلية في عدة مناطق من القارة وفي العالم العربي (فلسطين، لبنان، تشاد، السودان، جنوب إفريقيا، الصحراء الغربية). وكانت بداية الإقبال على الأوراق الموريتانية ما توفّر لعمالها من تسهيلات بفضل الاتفاقية القنصلية، التي على أساسها أصدرت السفارة بطاقة، أجازتها دوائر الأمن والجوازات ووزارة العمل، فزالت – إلى حد كبير – العديد من العقبات، رغم الجو المضطرب الذي تمر به الإدارة المحلية آنذاك نتيجة التغيرات السياسية والاجتماعية المستجدة.
وعندما علم أهل أژواد وأژواڴ بالأمر اتجهوا صوب السفارة، على اعتبار أنهم موريتانيون، خاصة منهم البيظان، فاشتُرط في المرحلة الأولى حملهم لأوراق ثبوتية موريتانية كالجواز، الذي كانت غالبيتهم تحصل عليه ـ في فترة زمنية قياسية - من إدارة الأمن في نواكشوط، التي تسلمه لكل من يقدم الملف المعهود الذي يحصل عليه الناس دون عناء، عبر وسطاء من الأقارب أو السماسرة؛ وهكذا بدأت عملية انتشار الأوراق الموريتانية الثبوتية، وتحددت أثمان كل منها (جواز السفر، قيد الازدياد، شهادة الجنسية، البطاقة الشخصية، شهادة الإقامة، شهادة الخلوّ من السوابق، رخصة قيادة السيارة). وكانت التعليمات الدائمة إلى السفارات – التي بحوزتها بعض الجوازات قبل أن تُنزع منها صلاحيات الإصدار- تأمر بتسليمها لكل من يقدم ذلك الملف.
وبعد سنة 1978 تفاقمت الظاهرة، التي كانت مقتصرة على الراغبين في العمل بليبيا، حيث لم تكن مسألة الهجرة إلى أوروبا قد بدأت، مما جعل العديد من السفارات تنبّه إلى خطورتها، ومنها بعثة طرابلس مصطحبة مع الرسائل – أحيانا - نماذج من وثائق رسمية موقعة ومختومة  من جهات عدة تابعة للإدارة الإقليمية، دون ملء خانات الأسماء الشخصية أو العائلية - للتحذير من مخاطر العملية وضرورة وقفها. وعلى كل كانت موريتانيا في تلك المرحلة من أواخر الدول التي "طُرحت" أوراقها في "السوق" وأقلها عددا، ضمن منظومة إفريقيا الناطقة بالفرنسية التي ظلت جوازاتها إلى عهد قريب تباع بمبالغ زهيدة، وفي طليعتها مالي وزائير ونيجيريا، عكس دول لها خصوصيات تحافظ عليها، كالكاميرون والغابون وأنغولا ورواندا وبوروندي، أو الدول العربية الإفريقية أو معظم تلك الناطقة بالإنڴليزية، ولم تول الحكومات المعنية أهمية بالموضوع إلا مع تنامي الجريمة العابرة للحدود، واندلاع الحروب ضد ما سمي الإرهاب. 
 

البطاقة القنصلية (بناءً)


   انتشرت بين الموريتانيين والماليين والنيجيريين – كما سلف - البطاقة القنصلية، سواء كانوا من حملة الأوراق الموريتانية، أو من غيرهم، ممن تقطعت بهم السبل، فشوهد العديد من حملتها – مؤشّرة - في جدة، إذ كان بعض السفراء السعوديين يُغمضون أعينهم حتى "لا يَرُدّوا الموريتانيين عن زيارة الحرمين الشريفين".
وترسخت أسطورة "بناءً" - كما سُميت - دون مثيلاتها التي تُصدرها سفارات الدول المرتبطة باتفاقيات مشابهة بليبيا، ولم تعد حكرا على من أنشئت لهم، بل وُجدت لدى بعض الجنسيات الأخرى، حيث تُنتزع صورة صاحبها وتوضع محلها صورة المالك الجديد، وطبقت شهرتها آفاق ليبيا وحيزها.
وَوَجدت جميع الأطراف ضالتها في البطاقة، حيث وفرت على السلطات الرسمية الليبية الجهد، بوجود مرجعية قانونية مسجلة عليها، وأصبحت تضع عليها الإقامة بدل الجواز أحيانا، وذلك بلا شك رغبة في تسهيل أمر حملتها، ومساعدتهم؛ هذا في وقت لا تشكل فيه البطاقة وثيقة دولية معترفا بها، تكون لها تبعات قانونية محرجة، حيث لا تضم سوى النص التالي:
"بناء على الاتفاقية القنصلية الموقعة بين الجمهورية الإسلامية الموريتانية والجمهورية العربية الليبية بتاريخ 13 شعبان 1393 هـ الموافق 10 سبتمبر 1973م والتي صدرت بقانون ليبي رقم 99 لسنة 1973م والتي تنص على حق مواطني الدولتين في مزاولة كل المهن والأعمال الحرة في كلا البلدين والدخول بدون تأشيرة - دخول وإقامة بدون حدود- إذا كانوا يحملون وثائق سفر معترف بها.
ترجو السفارة الموريتانية بطرابلس من السلطات والهيئات في الجمهورية العربية - كل في ما يخصه – السماح بالإقامة والعمل لحامل هذه البطاقة".


وقد استمر الإقبال على "بناء" إلى عهد قريب، رغم جميع المحاولات التي قامت بها السلطات الموريتانية، خاصة بعد انتفاء جل الأسباب التي ساهمت في انتشارها مثل وقف حرب الصحراء سنة 1978، وفتح سفارة لمالي في طرابلس سنة 1980.  يتواصل
 









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق