الأحد، 22 يوليو 2012

"أوراق" عن أزواد /الخامسة/ موديبو: كما قَتَل قُتل

اغتالت القوات المالية أهم زعماء مالي السياسيين، و"انتصر على ثوار إفُوقاس في أزواد بقتل حاميهم الروحي"  فاكتملت للرئيس موديبو كيتا الزعامة الداخلية، وغادر باماكو بأيام قليلة بعد مجزرة 30 يونيه 1964 إلى القاهرة لحضور ثاني قمة قارية تحت مظلة، منظمة الوحدة الإفريقية الناشئة، واقتسم بذلك الأضواء المسلطة على الزعماء الأفارقة الثورين، إضافة إلى الهالة التي أحاطت به عن دوره في النزاع الحدودي الجزائري المغربي. فانعقدت القمة تحت رئاسة الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان في أوج سطوع نجمه المحلي والدولي، حيث استقبل في السنة نفسها القمة العربية وقمة عدم الانحياز.
  وقد انعقدت القمة في مقر جامعة الدول العربية، في جو من المظاهر الاحتفالية المبهرة، حيث صادفت إحياء ذكرى  ثورة 23 يوليه المصرية، التي بذلت فيها القاهرة طاقاتها لتظهر أنها أهم زعيمة للقارة والعالم العربي، ومع الهند ويوغوسلافيا إحدى الدول التي تقود حركة عدم الانحياز، الرافض لمنطق تبعية الغرب أو الشرق؛ كما وقع في هذه المناسبة ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية الذي كان مفكرون وكتاب قد انكبوا على إعداد مسودته، منهم محمد حسنين هيكل، ودعي القادة إلى حفل بهيج في نادي الضباط بالزمالك، غنت فيه أم كلثوم أول لحن لمنافسها الكبير محمد عبد الوهاب أنت عمري، بتقديم أشهر مذيع مصري جلال معوض، كما أقام عبد الناصر حفل عشاء في حدائق قصر القبة، غنت فيه فرقة رضا، المؤلفة من شباب الجامعات، وأقيم في مدينة نصر عرض عسكري وشبابي وعمالي دام عدة ساعات، ظهر فيه من الأسلحة ما اعتُبر ردعا لكل من يحاول التحرش بمصر.
  وقد جرت محاولة لتعكير جو القمة هي وصول رئيس وزراء الكنغو اليوبولدفيل موسى تشومبى إلى القاهرة فجأة ليحتل مقعد بلاده، غير أنه أعيد من حيث أتى لأن مصر والدول الثورية لا تعترف به، لكن حادثا آخر جرى بطريقة لم تكن في الحسبان، كان له وقع مؤلم على بعض الوفود، وخاصة مالي وغانا وغينيا.
  هذا الحدث هو الكلمة التي ألقاها رئيس جمهورية مدغشقر، فيلْبيرْ تْسيرانانا، في جلسة علنية بحضور جميع القادة، حيث كال سيلا من النقد اللاذع لمعظم الحاضرين وخاصة الزعماء الثوريين، تارة بروح مرحة وابتسامة عريضة، ومرات أخرى بجد وصراحة مفرطة، وأعلن منذ الوهلة الأولى أنه لا يشاطر الحاضرين تفاؤلهم بمستقبل القارة في ظل القمع وعدم التسامح، ضاربا المثل بكل من رؤساء غينيا وغانا ومالي بأسمائهم، حيث يتشدقون بالثورية والحرية، وهم يقتلون مواطنيهم، ذاكرا بالاسم زعيمي مالي الذين لم تجف دماؤهما بعد: سيسوكو وديكو. ثم هاجم النفاق السياسي، خاصة في العلاقات الدولية، قائلا "إن تماديتم في هذا النهج سأبقى في جزيرتي خارجا عن إفريقيا، ولن أكون مثلكم في النفاق، فرئيسي هو الجنرال دڴول، وسأذهب إليه مباشرة لأقدم له تقريرا عما جرى هنا، ولتكونوا مثلي وتعترفوا بأنكم تابعون لموسكو وپيكين". وقد ظل الحاضرون - بمن فيهم أعضاء الوفود والمدعون والصحفيون - مشدوهين بين غاضب مستنكر، ولاه مستمتع بهذا الخطاب الطويل، وهو ما انطبق على الرؤساء أنفسهم، خاصة موديبو ونكروما الذيْن كانا في أشد حالات العبوس، يلوح أعضاء وفديهما خلفهما بأيديهم استنكارا للحديث، أما عبد الناصر وبورقيبه وسنغور والحسن الثاني، وغالبية الرؤساء فقد تابعوا بإصغاء وكأنهم في مسرح، بينما لم يتحكم المختار بن داداه وأحمد بن بله، وعدد من الوزراء من كبت نوبة الضحك التي أصابتهم.
**
 مرت الأيام وسقط موديبو كيتا بانقلاب عسكري في 19 نونبر 1968، وأُرسل إلى كيدال، ليعيش في ظروف صعبة، وإن كانت أقل قسوة مما عرفه معارضوه السياسيون الذين اختارها لهم، ثم ينتقل إلى الجنوب الأكثر رطوبة، ويتقابل في أحد الأيام أمام المستشفى مع زعيم آخر ما يزال في السجن من بقايا ضحاياه، هو محمد آعلي آڴ الطاهر الأنصاري، الذي خاطبه "موديبو، هل عرفتني، أنا محمد آعلي الذي كنت أعطيك - وأنت تلميذ - البسكويت وغيرها من الأشياء التي تطلب". وكان أبشع إرث تركه موديبو كيتا لبلاده ما استنّه من نهج في القمع والتعذيب والتصفية الجسدية لمعارضيه، حيث اتَبعت ذلك الطغمة العسكرية التي أطاحت به، وأصبح النهج السائد، وكان هو ضحيته عندما مات مسموما في 16 ميه 1977، وكاد النهج هذا يقضي على طبقة الضباط الحاكمين، المتكالبين على السلطة والمال.

 

نهاية النقيب بازاني في تاودني

مما يستدل به الأزواديون على احتقارهم من قادة مالي جعل مدنهم التاريخية وبلداتهم الشهيرة أوكارا لأنواع الفجور والإجرام، ومراكز للتعذيب السياسي والقتل الممنهج خارج القانون، حتى اقترنت أسماؤها بذلك، بعدما كان صيتها كمواطن للعلم والذهب والملح، ملهم أطماع العالم منذ القرون الوسطى. ومن هذه البلدات سبخة تاودني التي يقع فيها مركز إداري وعسكري للحكومة المالية، على بعد 700 كلم شمال تنبكتو، في نقطة هي الأخفض عن سطح البحر في الكرة الأرضية، عوض البحر الميت. وحوض تاودني يطلق في المصطلحات الجيولوجية على مساحات شاسعة تشمل مناطق من أزواد وتمتد إلى داخل الشمال الشرقي الموريتاني؛ أما صحراؤها فهي قاحلة لا شجر فيها ولا نباتا، تُصليها شمس حارقة في غالبية أيام السنة، حيث تكون درجة الحرارة صيفا 50 درجة نهارا و40 – 45 ليلا، وفي الشتاء 20 – 30 درجة في النهار و10 – 0 ليلا. "يوجد عند السبخة بئر يدعى حاسي صالح نسبة إلي أحد الصالحين، ماؤه مالح، يقع على عمق 50 مترا، وهو في هذه البلاد القاحلة المعطشة هدية من السماء، غير أن الإنسان لا يستطيع شربه إلا بخلطه مع مواد تساعد على تحمله، مثل تجمخت، (دقيق ثمر شجر الدوم [التيدوم] الذي ينبت في الجنوب] أو دقيق الذرة أو اللبن الرائب، والاغتسال به يحتاج إلي مجهود وتقنية، حيث يمنع رغوة الصابون، ولا يزيل وسخ الجلد، مما يحتم خلطه بالحصى الصغير مع الدلك بقوة، ومع ذلك فلولا الماء المالح لمات الناس من الإمساك.
  يحكم مركز تاودني نهاية 1969 الملازم كانتاو الذي يجمع بين يديه كل السلطات، وقد أوكل إليه أمر مجموعة من السجناء العسكريين المحكوم عليهم بالمؤبد، وعلى رأسهم النقيب بازاني (ديبيى سيلاس جارا) الذي عرفناه فيما سبق قائدا للكتيبة التي أشرفت على سحق التمرد في أزواد، حيث أدين بمحاولة انقلاب بعد أن كان واليا لمحافظة موبتي.
 كان الملازم كانتاو الآمر الناهي، ومهمته الأولى هي إلحاق أشد أذي بالسجناء المحكوم عليهم بالإعدام أو السجن المؤبد الذين أرسلوا إليه في هذا الفضاء السحيق الذي لا صلة له بالعالم الخارجي. وللدلالة على الاستبداد الذي يفتخر به، أعطى لنفسه اسم إمبراطور قبيلة الموشي (مورو نابا) الذي بيده مصير شعبه حياتا أو موتا، لا يعرف قاماتهم إذ لا يراهم إلا راكعين له. وكان سجناء تاودني يسجدون لسيدهم الجديد حتى يغمسوا رؤوسهم في الأرض مقبلين جزماته، فيرد عليهم التحية بوضع قدمه بقوة على رقبة كل منهم حتى تندس في التراب. وإضافة إلي الأوامر التي تلقاها من قادته استعمل كل ما خطر بباله من بطش ليجعل نهايتهم الموت البطيء. وهكذا بدء بتحويلهم إلي عمال لقلع عدائل الملح الذي يتولاه عادة عمال محترفون يتوارثون المهنة، التي تعد قاسية جدا خاصة على من لا يعرفونها.
توجد في تاودني – كما سلف - سبخة غنية بالملح المتراص في حصائر منتشرة تحت طبقة رملية، يقوم عمال مهرة بتقطيعه في شكل قوالب لتكون جاهزة للنقل، لذلك اعتبر الضابط أنه العمل الأكثر مشقة والأنسب لسجنائه، وهو في الوقت نفسه فرصة لتطييب خواطر رؤسائه بإهدائهم ملحا وفيرا بلا ثمن. وقد فتح مقلعا بعيدا عن أمثاله ليفسح المجال أمام جنوده لإطلاق النار على السجناء في حالة محاولتهم الهروب، دون أن يعرض العمال العاديين للمخاطر.
كان المقلع الجديد يبعد 12 كلم عن المركز العسكري، يرغم السجناء على قطعها جريا على الأقدام المثقلة بالسلاسل في ذهابهم وإيابهم، يسبق ذلك ضرب مبرح عند الساعة الرابعة صباحا، موعد الانطلاق، وتكون العودة عند الساعة الخامسة مساء، تتخلل ذلك استراحة لمدة 5 دقائق لتناول الغداء المكون من حب الدخن الأحمر الغليظ نصف مهروس، لم يكتمل نضج طبخه، وهو عادة يحضر كعلف للماشية، لكنه هنا يخلط بالتراب والحصى ( أرارش).
ولم يكن للسجناء الحق بعد يومهم الشاق المنهِك في فسخ ثيابهم مما جعل أجسادهم مرتعا للقمل، مثل ثيابهم المتلبدة من شدة الاتساخ، والتصاق الحصباء المبللة بالعرق، والتي تتساقط قطعا بعد أن تيبس. وليس للمصابين منهم الحق في استراحة مرضية، بل يحملهم زملاؤهم إلي المقلع يوميا، ويتركون مرميين في الرمضاء، حيث تصل الحرارة 50 درجة في الظل. وكان الملازم كانتاو فخورا بما حققه من نجاح في استخراج عدائل الملح، وبما أصاب السجناء من ضعف وهزال.
وفي أحد أيام يناير، وكتهنئة للسجناء بالعام الجديد، أعادهم إلي المقر قبل الوقت المحدد، مما جعلهم يتصورون أنها لفتة رحيمة، خاصة وأنهم سقطوا على الأرض عند وصولهم لشدة الإرهاق. وعند مدخل المركز كانت هنالك عديلة ضخمة نقش عليها كانتاو "أول عديلة استخرجها الخونة يوم فاتح يناير 1970 " ثم غادر وهو يتضاحك قائلا "لقد أعدتكم باكرا اليوم حتى تقرؤوا في ضوء النهار هذا الإهداء المنقوش تكريما لكم، وسترسل في الغد إلي القيادة العليا كشاهد على إسهامكم الفعال والطوعي في الإنتاج الوطني في جنة الصحراء هذه.
واتهم الملازم السجناء بمحاولة رشوة أحد جنوده الذي فرض عليه شهادة زور، ثم أبلغهم أنهم سيعدمون في الصباح، مما كان له وقع لا يتصور عليهم، وعند بزوغ الشمس ساقهم مقيدين بالسلاسل ليجدوا أمامهم فرقة إعدام مؤلفة من 12 جنديا، مما صدق لديهم تهديده، وبادرهم: بأنهم لم يذكروا خلال استجواباتكم السابقة جميع شركائهم في المؤامرة، لذلك سيترك لهم حياتهم إن أقروا بهم اليوم، لكنهم رفضوا الرد عليه كرجل واحد، فكانت العقوبة الضرب بأعقاب البنادق والعصي حتى تقيئوا الدماء.
ثم جاءت للملازم فكرته السادية لبناء حصن في تاودني مساحته 2500م2، فأمر السجناء بحفر بئر بأدوات قليلة وصنع 100 طوبة من الآجر لكل منهم في اليوم، وهو رقم خيالي لهؤلاء التعساء الذين يُختم يومهم - في معظم الأحيان - بالضرب المبرح على كل الأعضاء دون أي سبب.
وكان البناء يسقط كل ما علا، لجهل السجناء بالمهنة؛ وعندما مات أحدهم من شدة التعذيب والجوع رفض دفنه في مقبرة السبخة لأن السجناء لا يستحقون ذلك، وأمر بإلقائه بعيدا عن الحصن، مما جعل زملاءه يعودون إليه في الصباح ليدفنوا ما أبقت بنات آوى من جثمانه.
وكان الملازم يتباهي بإنجازه ويقارنه بالأهرامات التي بناها الفراعنة في مصر [إنه إنجاز سيخلده له التاريخ] وهو ما تحقق بالفعل حيث بقي الحصن الذي أملته إرادة رجل مريض بجنون العظمة، وكلما هبت عاصفة رملية يكون صداها في الحصن كصياح وأنين كل من سكب دمه على طوب هذا البناء المنحوس. وقد تناوب على قيادة المركز العديد من الضباط وصف الضباط، لم يكونوا كلهم بقسوة الملازم كانتاوو إلا أن الأقل تشددا يلقون العقاب، وأقله الحرمان من ترفيع الرتب حتى التقاعد.
ورغم اكتشاف مؤامرة جديدة لإسقاط النظام في باماكو واعتقال القادة السابقين من قبل الرئيس إلا أن من حلّوا محلهم كانوا أشد قسوة من سابقيهم الذين نقل العديد منهم إلي تاودني ليعيشوا مع من لم يمت من السجناء الأولين.
وقد رفعت عن النقيب "بازاني" الرقابة، إذ لم يعد يشكل أي خطر، وأصبح من بين السجناء مجرد جثة متحركة، ، بلا لحم ولا أعصاب، مثل التمساح الجائع، يزحف في تنقله على يديه وركبتيه، تاركا خلفه خطوطا عميقة في الرمال الحارة، من السهل اقتفاؤها، ولم يعد له من العمل إلا جمع بعر الإبل حول البئر لغرض الطهي، وقد قيل إنه فقد ملكة النطق بسبب العزلة الطويلة التي يعيشها، لكنّ من نظر إليه عن قرب يرى بقية بريق، يشكل نوعا من التحدي لسجنائه. وأمام تعلقه بالحياة تجرأ الملازم كانتاو على اتخاذ قرار خطير العواقب أمام التاريخ وهو قتل هذا السجين الذي كان بلا شك الهدف النهائي، وطريقة التنفيذ متروكة له. وفي أحد الأيام استدعى الجندي الطارقي الشاب سالم آگ سالم ودار بينهما الحديث التالي:
-    سالم، هل صحيح أن أخاك قتل في التمرد (1963)؟
-    مع الأسف نعم، وما أزال أبكيه، يرد الجندي
-    هل ترغب في معرفة ظروف موته، وقاتله؟
-    إنني أجهل ذلك، لأنني كنت صغيرا. آه! نعم، وألف نعم! إنني أحب أن أعرف القاتل، وبالي لن يهدأ قبل أن أقوم بالواجب المقدس، وهو الثأر لدم أخي
-    اسمع جيدا. كان أخوك شجاعا بين الشجعان، عرفته قبل التحاقه بالتمرد، وأنتما تتشابهان كقطرتي ماء. لقد قاتل من أجل قضيته، لكنه فوجئ مع صحبه بسبب وشاية، خلال عملية تمشيط للجيش، دارت خلالها معركة دامت صبيحة يوم كامل. وبعد استنفاد ذخيرتهم استسلم أخوك ومن بقي معه من زملائه، ورفض بإباء الإدلاء بأية معلومات لمحققي شعبة مخابرات المكتب الثاني رغم التعذيب، بل بلغت به الجرأة حد البصق في وجه الضابط الذي يستجوبه، موقعا بذلك صك موته.   
كان أخوك يفضل الموت وسلاحه بيده، لكن ذلك لم يقع، بل أجبر على شرب قدح من البنزين، ثم صُب على جسده المتبقي وهو حوالي ثلاث لترات، وأشعلت النار فيه، لكنه قابل ذلك برباطة جأش ودون أن يطلب الرحمة أو يُصدر أنينا، حتى انفجر كالقنبلة. وكان الضابط يتوقف بين الحين والآخر ليرى وقع سرده التمثيلي للقصة على الشاب الطارقي، الذي انكسر قلبه وهو يبكي بدموع حارة، يرتعد جسمه من شدة الغضب والتأثر، منتظرا أن يكشف له اسم القاتل، إلى أن سمع: هل أنت مستعد لأخذ الثأر لأخيك، عندما أكشف لك عن اسمه؟
-    كيف لي بذلك؟ وكيف الوصول إليه؟
-    قل لي نعم، وسأقدمه لك في الدقائق الآتية
-    نعم! نعم! نعم!
-    حسنا، ياصغيري، إنه النقيب بازاني، الذي قتل أخاك الأكبر
-    لا، هذا غير ممكن!
-    إنها الحقيقة بعينها، وهو الآن نحو البئر، فهو لك ، سالم، افعل به ما تريد، اقت...
ولم ينتظر سالم إتمام الجملة فطفق يعدو مطلقا صيحة الحرب، كما يفعل أجداده عند الهجوم، وفي الطريق أخذ دبوسه متجها إلى البئر، مواصلا صيحاته. وفي هذا الوقت كان النقيب بازاني الذي يجهل أن مصيره قد تحدد، منبطحا على وجهه فوق الرمال الساخنة يضع يديه على رقبته ليقيها حر الشمس، بعد أن أنهى نوبته من جمع البعر حول البئر. وقد وصلت إلى مسامعه صيحات سالم كالصدى، ولم تكن غريبة عليه، لأنه سمعها من قبل في الجبل، ثم بدأت تقترب، غير أنه كان يجهل أنها موجهة إليه.
وقريبا من جسد النقيب بازاني المشوه توقف سالم، والنقيب رافع رأسه إليه ليتلقى في الوجه حثوة تراب أثارتها جزمات الجندي الطارقي الشاب، وعند فتح عينيه عرف دبوس الراعي البدوي المخيفة ذات الرأس المدبب كراس الثعبان، وتكشيرة في وجه سالم، ورغم حاله الضعيف حافظ النقيب على بعض الوعي، مدركا أن أجله قد حان، حيث نزلت العصا على رأسه ليلفظ أنفاسه الأخيرة. وبذلك فقد النقيب ديبيى سيلاس ﭽارا، "أسد الصحراء" سيد كيدال، قاهر التمرد، معركته ضمن صراع الحياة الفانية.  
  إن الإرادة الإلهية تسوقنا حتما – فرادى وجماعات – إلى مصيرنا، كما ساق النقيب بازاني معه إلى هذه النهاية المفجعة معظم الضباط وضباط الصف الذين شاركوا في حملة كيدال، خاصة الملازم سام الذي أشرف على قتل فيلي دابو سيسوكو وحامادون ديكو وقاسم تورى، فقد ظلت تربطهم سلسلة خفية حتى الرمق الأخير من حياتهم" . يتواصل 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق