بسم الله الرحمن الرحيم
أشكر نادي القصة دعوته لحضور هذا اللقاء، المخلد للذكرى الثانية لرحيل الطيب صالح.
كان أول ما خطر ببالي عندما قررت الحديث في هذا اللقاء ثلاث محطات:
الأولى في الدوحة في ربيع 1975 حيث أقمت مع الطيب صالح علاقة استمرت طيلة العقود الأربعة الأخيرة. كانت المناسبة اجتماع اتحاد الإذاعات العربية، حيث كنت أرأس الوفد الموريتاني، بينما يرأس هو الوفد القطري، بوصفه مديرا عاما للإعلام في قطر أي المشرف على الوزارة قبل أن يكلف بها وزير، حيث كان الآمر الناهي في هذا القطاع الحيوي للدولة الناشئة، والمشرف الفعلي أيضا على الشئون الثقافية.
خلال الجمعية العامة لاتحاد الإذاعات، وردتْ عدةَ مرات ـ في كلمات رؤساء الوفود ـ الدعوة إلى مدّ يد العون للإذاعات الفقيرة في اليمن والسودان والصومال وموريتانيا؛ وهو ما جعلني أتناولت الكلمة لأقول: إنني ـ نيابة عن نظرائي مديري إذاعات هذه الدول التي تصفونها بالفقيرة ـ أحتج على هذه الطريقة التي تعاملوننا بها، وأرجوكم الكف عنها، لأن مؤسساتكم ليست مخولة أصلا بتقديم العون، بل أنتم – كما يتضح من الوثائق المتداولة ـ بحاجة إلى موازنات تغطي احتياجاتكم الخاصة. وعلى كل فإن الحكومة الموريتانية – إن قررت طلب عون لإذاعتها ـ ستتوجه إلى من يعنيهم الأمر، وهم ملوك وأمراء ورؤساء الدول، وليس إلى مديري الإذاعات، الذين لا يملكون إلا تحسين الصورة أو تشويهها، وهو ما قد يكون وقع اليوم.
وقد ساد وجوم بين الحاضرين بسبب مفاجأة الرد، وبدأ رئيس الجلسة في الاعتذار، ومعه عدد من رؤساء الوفود منهم محمد سعيد الصحاف مدير عام الإذاعة والتلفزيون العراقي آنذاك، وقد اتجه نحوي الطيب صالح من مقاعد الوفد القطري فعانقني وقال بصوت مسموع ما معناه لقد أحسنت.
وفي اليوم الموالي سلّمته رسالة من وزير الثقافة والإعلام آنذاك أحمد بن سيدي بابا تعرب عن الرغبة في التعاون بين القطاعين، فاستفسر مني الطيب صالح قائلا: "هل باستطاعتي أن أسألك عن إمكانية دعمنا لقطاعات الإعلام والثقافة في موريتانيا؟" فضحكت وقلت له: إنكم مَن أعني، حيث تملكون الإمكانيات والصلاحيات عكس زملائنا أمس، ثم استقبل أميرُ دولة قطر رؤساء الوفود، فنبهه الطيب صالح إلى الخطاب الذي حملته، وهكذا زار الطيب صالح نواكشوط في أكتوبر من تلك السنة ليحمل معه مبلغا كبيرا من دولة قطر، موّل تأسيس المعهد الموريتاني للبحث العلمي، ودُعمت منه الوكالة الموريتانية للأنباء، والشركة الموريتانية للصحافة الناشئتان.
المحطة الثانية كانت هنا في نواكشوط، بعد زيارته لموريتانيا التي قادته لعواصم ولايات الترارزه، وداخلة نواذيبو، وآدرار، ومدينتي المذرذره وشنقيطي، حيث قال: "لو أتيحت الفرصة لإعادة كتابة تاريخ اللغة العربية لقيل إن منبعها موريتانيا".
ومن هذا التاريخ كسبتْ موريتانيا الطيب صالح، الذي أصبحت في مقدمة اهتماماته، يتحدث عنها في المهرجانات والندوات واللقاءات، حتى رحيله، فكان سفيرها المتجول الذي لا يوصد أمامه باب، ولسانَها في المنابر العربية والأجنبية، معوضا عن قصورنا في التعريف بأنفسنا، حتى أصبحت موريتانيا لدى محاوري الطيب صالح الموضوع الحاضر، ليس من باب الإلحاق، وإنما منبعا للثقافة العربية، ومصدرا رئيسا للتراث الإسلامي المشترك، ونصدر تسامح وإنصاف، يتجلى في أجمل حلله بما تحتله المرأة الموريتانية من مكانة سامقة، لا بالقوانين المستوردة ودعوات التغريب والمسخ.
وقد بلغ حبُّ الطيب صالح لموريتانيا وأهلها حدا جعله يخرج أحيانا عن وقاره وهدوئه المعروفين، عندما يُخدش وجه موريتانيا العربي الإسلامي الناصع، حتى ولو كان ذلك من الموريتانيين أنفسهم.
المحطة الثالثة، في خريف 1988 بباريس، حيث كان يقول "يجب أن تنتهي الحرب في السودان، لئن لا يفقد بلدنا أعز ما لديه، وهو استقلاله وهويته، حتى لو كان ذلك بالانفصال" وها هو السودان ينهي هذه الحرب بالطرق الحضارية، عبر المفاوضات وتقرير المصير لسكان الجنوب، الذين ظلت حركاتهم السياسية والعسكرية مصدر القلاقل وذريعة لتكالب القوى الخارجية على السودان وأمنه، راجين من الله أن نكون في بداية مرحلة جديدة من الاستقرار، ليتمكن هذا البلد الشقيق التوأم، والمفصلي في إفريقيا والعالم العربي من النهوض والتقدم.
ويومها تحدثنا طويلا عن مستقبل أمتنا العربية والإسلامية وقارتنا الإفريقية وبلديْنا بصورة خاصة، وعن إشكالية العلاقة بين الشمال والجنوب. وكان رأي الطيب صالح أن مصر هي مفتاح الإصلاح في العالم العربي، وأن وضعها آنذاك كان مثبطا للعزائم، وخاصة للسودان، الذي يرتبط معها بعلاقات مؤثرة على حاضره ومستقبله أكثر من أي بلد عربي آخر.
أما رأيته في العلاقات بين الشمال والجنوب، فتعبر عنها قصصه ومحاضراته وكتاباته الغزيرة في الصحف والمجلات، التي نرجو أن ترى النور حتى ينهل منها الجميع. ولم يتستر الطيب صالح ـ المقيم في لندن والمتشبع بثقافة الغرب ـ على التناقض بين الغرب والشرق، كما لم يجامل في وقوفه ضد الاستلاب والمسخ، الذي هو من تجليات صراع الحضارات، الذي يريد البعض إنكاره خوفا من تغوّل الغرب بعد أحداث 11 شتمبر. ألم يَـنفِـر الطيب صالح من أن توصف أعماله بالعالمية حتى لو ترجمت إلى لغات أجنبية؟ حيث يرى أن العبرة باحترام العمل الأدبي لثقافة الشعب وأصالته، وتعبيره بصدق عن همومه التي هي في النهاية إنسانية.
ومن فلسفة الطيب صالح نستخلص أن أبناء الجنوب أنداد لأبناء الشمال، لكن الجهل والظلم قد قضى بأن يظلوا متخلفين، يتصارعون داخل حدودهم وبين دولهم، ضمن أنموذج مشوه لنظام فصّله الاستعمار، وأدى إلى عقم في السياسة ومسخ في الثقافة وترد في الاقتصاد، وتدمير للبيئة، لا خلاص منه إلا بابتكار نموذج محلي أصيل، قد يلتقي مع تجارب الغرب وتجارب الشرق، على أن يوصل إلى حكم ديمقراطي، منبعه الشعب، وقاعدته التداول السلمي على السلطة، ومبتغاه الحكم الرشيد والشفافية، يضمن المساواة والعدل، واحترام التعددية وحقوق الإنسان.
إنكم أيها الشباب في نادي القصة مدعوون إلى حمل الرسالة التي تركها الطيب صالح، عبر آثاره الخالدة، لتعبروا ـ بصدق ـ كما فعل هو ـ عن هموم شعبنا، وأن تنيروا له الطريق في صور أدبية أصيلة حتى ندخل القرن الحادي والعشرين، قرن كسر قيود التهميش والظلم، حيث لا منّة على الشعوب من حكامها بل تسابق للحكام على إرضاء الشعوب.
إن انتفاض قطاعات واسعة من شباب الأمة العربية، على رأسهم شباب تونس ومصر، ليبشر بالخير، خاصة وأنهم رسخوا قواعد جديدة هي أن التغيير ممكن دون إراقة الدماء، ودون الفتنة بين الأغنياء والفقراء، أو بين أتباع الأديان، وفوق ذلك أن التغيير يتم دون إذن من القوى المهيمنة في العالم، بل حتى دون علمها.
لقد أثبت شباب تونس ومصر أن شباب الأمة بخير، ودحضوا ما كان يروج عنه من ضياع ولهث خلف المال والمتعة.
ذلكم نتاج تراكم ما خلفته الرؤية الثاقبة لكتّاب ومفكرين وفلاسفة وأدباء وروائيين وقصاصين، ورجال دين وسياسة، في طليعتهم الأديب الزاهد المسلم الطيب صالح، رحمه الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق