موريتانيا والقضية الفلسطسنية
تصدى أول نائب موريتاني في بالبرلمان الفرنسي أحمدو بن حرمه لتقسيم فلسطين سنة 1948، في كلمة ألقاها في الجمعية الوطنية الفرنسية، عندما أثير فيها موضوع التقسيم.
في الخمسينيات، ومع بداية انتشار الوعي السياسي في مستعمرة موريتانيا، كان هناك تطلع إلى معرفة أوضاع العالم العربي، ليس فقط في المغرب الأقصى والجزائر، ولكن في المشرق أيضا، كبيت المقدس والحرمين الشريفين ومصر، وبدأ الناس يتداولون ما يصلهم من أخبار عن شعب فلسطين وتشريده، إلا أن ظهور الموضوع في الأدبيات السياسية تأخر إلى فترة الاستقلال.
أعلن الرئيس المختار بن داداه ـ مباشرة بعد إعلان الاستقلال في 28/11/ 1960 أن موريتانيا تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني، منددا بتقسيم فلسطين، ومناديا بتطبيق قرارات الأمم المتحدة، الخاصة بعودة اللاجئين، وإنصافهم، بإعطائهم حقوقهم المغتصبة، رافضا أي اعتراف بالكيان الصهيوني.
من ذلك التاريخ، أصبح تأييد موريتانيا للشعب الفلسطيني عنوانا ثابتا في السياسة الخارجية للدولة الفتية.
لفت هذا الموقف انتباه الرئيس جمال عبد الناصر، فعبر عنه بقوله لأول وفد رسمي موريتاني يزور القاهرة في يونية سنة 1963: "لقد انبهرت بموقف الرئيس المختار بن داداه من القضية الفلسطينية ومن قضايا التحرير عامة، وفي إفريقيا خاصة، وخجلت من أنني لم أكن أعرفه، وكذلك من تجاهلنا لهذا البلد العربي الإفريقي الأصيل".
نعم كانت القضية الفلسطينية قضية موريتانيا الوحيدة التي يدافع عنها كل الموريتانيين بدون استثناء، ولم يكن غيرُها مطروحا بعد استقلال الجزائر، إلا حماية استقلال موريتانيا نفسها.
في سنة 1969 وصل إلى نواكشوط أول مبعوث رسمي لمنظمة التحرير إلى موريتانيا هو سعيد العباسي (أبو فهد) ففتح أول مكتب رسمي للمنظمة في نواكشوط، بعد أن أمّنت له الحكومة مكتبا ومنزلا وسيارة، ومبلغا ماليا سنويا، ثم أصبح المكتب سفارة دولة فلسطين في نواكشوط. وانطلق من إذاعة موريتانيا صوت الثورة الفلسطينية بالعربية والفرنسية، ليُسمع في أجزاء واسعة من القارة.
شكل هذا المكتب مركز انطلاق النشاط الفلسطيني إلى إفريقيا جنوب الصحراء، وكان أبا لجميع المكاتب التي أنشئت بعد ذلك في عواصم القارة جنوب الصحراء. وكان من سمات الموقف الموريتاني الدائم الامتناع عن التدخل في شؤون الفلسطينيين الذي كان هاجس قادتهم، وسبّب لهم الكثير من المشاكل.
الدور الموريتاني في موقف القارة الإفريقية من القضية الفلسطينية
يعود إذن إلى الرئيس المختار بن داداه فضل كبير في الاتصال بين الثورة الفلسطينية والقارة السمراء، وتغيير مواقف قادتها لصالح القضية الفلسطينية، فقد كان الرئيس المختار يرتبط بعلاقات حميمة مع زعماء دول القارة، بحكم انتماء موريتانيا للمنظمات الإقليمية والقارية والصلات الشخصية مع زعمائها.
سهل تأسيسُ منظمة الوحدة الإفريقية في 25 مايو 1963 مهمتَه وغيرِه من القادة العرب الأفارقة، حيث زالت التكتلات السياسية القارية السابقة، ومعها عهود من الشك والريبة كان الاستعمار يلعب عليها، وصارت القمم الإفريقية والمؤتمرات الأخرى، منابر رسمية تُطرح فيها جميع القضايا، ومناسباتٍ يحضرها الصحفيون والمثقفون، وصناعُ الرأي، فطُرحت علنا القضية الفلسطينية بأبعادها السياسية، وجذورها التاريخية، وطبيعةِ إسرائيل العدوانية، مما ساهم في إنارة الرأي العام الإفريقي، الذي أدركت شرائح مؤثرةٌ منه، أن هذا الكيان صنيعة للاستعمار ورأس حربة له في المشرق العربي، وقاعدة عسكرية يراد لها أن تمزق التواصل بين إفريقيا وآسيا، مما ساهم في بداية تهاوي حججها بملكية أرض فلسطين.
قبل ذلك، ظل الموقف الرسمي الإفريقي منحازا للكيان الصهيوني، لأسباب عدة، من أهمها ما ورثته تلك الدول الجديدة عن العلاقات الخارجية للدول الاستعمارية المسؤولة عن اغتصاب فلسطين، كبريطانيا وفرنسا.
قدمت إسرائيل نفسها للدول الإفريقية في الستينيات، على أنها دولة صغيرة محاصرة من مائة مليون عربي! مما يجعلها جديرة بالعطف والتأييد، وفي الوقت نفسه دولة نموذجية للشجاعة والتنمية، ينبغي لإفريقيا الاقتداء بها، خاصة في تقنياتها الزراعية واستخراج المعادن الثمينة، مع قدرتها على توفير الأمن للزعماء الأفارقة ومصدرا لأجهزة التجسس والتنصت المتطورة لحمايتهم، بدل تقديم المساعدات المالية أو الغذائية أو الإسهام في مشروعات الإنشاء والتنمية، لأنها هي نفسها تعيش على المساعدات الخارجية.
لكن سنوات من الوجود الإسرائيلي المكثف أثبتت أن الخبراء الزراعيين الإسرائيليين في شرق إفريقيا ووسطها وغربها، لم يفيدوا الزراع الأفارقة في شيء، بل تدهور الإنتاج في المناطق التي دخلوها، وتكشفت فضيحة سرقتهم للكثير من سلالات البذور الزراعية الإفريقية الشهيرة وبذور النباتات، لتتوَّج الفضائحُ إياهم، بما قاموا به في مجال الثروة المعدنية، حيث تبين أنهم سرقوا الألماس، وحولوه للصناعات الإسرائيلية التي أصبحت من أكثر مثيلاتها ازدهارا في العالم؛ أما الحراسات الشخصية، فقد كانت غطاء لإقامة شبكات تجسس، ولم تغن شيئا عن الانقلابات العسكرية، بل ساعدت في بعضها كما وقع في الكونغو وإثيوبيا وليبريا.
بدأت بشائر تغيير موقف دول القارة مع عدوان 5 يونيو 1967 عندما احتلت إسرائيل الأراضي المصرية في سيناء. عندئذ أصغى القادة الإفريقيون في جنوب القارة إلى حجج إخوتهم الشماليين، بوجوب تأييد تحرير الأرض المصرية الإفريقية، على قدم المساواة مع الأراضي الإفريقية التي مازالت تحت الاحتلال الأوروبي، كالمستعمرات البريطانية والفرنسية والبرتغالية والإسبانية، وهيمنة البيض في جنوب إفريقيا.
ثم كان المنعطف الكبير، عندما اندلعت حرب أكتوبر التحريرية سنة 1973 واستعاد العرب جزءا من كبريائهم، بإنهاء أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وأن لا مخرج للعرب إلا بالاستسلام.
تضافرت من جراء هذه الأحداث عوامل التضامن الإفريقي مع مصر ومنظمة التحرير الفلسطينية، بوصفها منظمة تقود نضال شعب يريد الانعتاق، مثل شعب جنوب إفريقيا وأنغولا وزمبابوي وزامبيا، وملاوي وموزنبيق وغيرهم.. وأصبحت الأرضية ممهدة، لقرار منظمة الوحدة الإفريقية التاريخي بقطع العلاقات مع إسرائيل، حيث لم يشذ عن ذلك إلا كينيا التي أبقت على تلك العلاقات فترة قبل أن تلحق بباقي دول القارة.
خاتمة
نعم، توطدت العلاقات بين الثورة الفلسطينية والدول الإفريقية، وبين دول جنوب الصحراء والعالم العربي بفضل جهود رجال بارزين من أمثال المختار بن داداه الذي كان الوسيط النزيه بين قادة الجانبين، وهو ما جعل الكثيرين يعترفون له بذلك، وعلى رأسهم ياسر عرفات وجمال عبد الناصر والملك فيصل وحافظ الأسد و"ليوبولد سدار سنغور" و"هوفوت بوانيى" وأحمدو أهيدجو وهواري بو مدين و"تفاوا بليوا" ومعمر القذافي وعمر "بونغو إنديمبا"، والكثير من السياسيين والكتاب والإعلاميين، وبعد موته أشاد الكل بهذا الدور التاريخي.
توطدت العلاقة بين الثورة الفلسطينية مع القارة، بفضل الزمالة النضالية بين مقاتلي حرب التحرير الفلسطينيين والأفارقة، حيث تدرب الكثير من أبناء القارة، الذين استقلت بلدانهم في السبعينيات، في المعسكرات الفلسطينية في لبنان، إضافة إلى دعم منظمة التحرير لهم بالسلاح والمال، وانضمام ياسر عرفات إلى من سبقوه، من القادة العرب إلى جهود تعزيز العلاقات العربية الإفريقية، وحل الإشكالات في العلاقات بين الطرفين؛ وكانت لذلك ثمار بارزة على رأسها الموقف الإفريقي المتميز في المحافل الدولية من القضية الفلسطينية، واعتبار منظمة التحرير مراقبا دائما في الاتحاد الإفريقي، يستخدمون منبرها البارز للدفاع عن قضيتهم، وهو ما فشلت إسرائيل في الحصول على مثله، بعد عجزها عن إلغائه.
تسابقت دول إفريقيا للاعتراف بالدولة الفلسطينية عندما أعلنت بالجزائر في 15-11- 1988، فأقامت معها علاقات دبلوماسية جعلت السفارات الفلسطينية بعد ذلك أكثر بكثير من مثيلاتها الإسرائيلية.
صحيح، تغيرت الحكومات الموريتانية – كغيرها - خلال العقود الأربعة الماضية، لكن موقف موريتانيا ظل كما كان من القضية الفلسطينية، ومن القضايا العربية كافة، كعضو في الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية والمؤتمر الإسلامي، والأمم المتحدة وفي جميع المحافل، حيث تلعب دورها بصدق وتجرد.
لا شك أن القضية الفلسطينية تعيش ظروفا شديدة التعقيد جراء استمرار اليمين الإسرائيلي المتطرف في السلطة، بل اشتداد قبضته يوما بعد يوم عليها، والعدوان الدائم على الضفة الغربية وقطاع غزة، ومواصلة الحصار والتجويع والاعتقال، والقتل الممنهج، وشن اعتداءات دموية مدمرة بأي ذريعة؛ وهي حالة لا ينفع فيها إلا استمرار الصمود البطولي للشعب الفلسطيني، وتضحياتُه التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ المعاصر؛ وكلما تحققت الوحدة وصمدت بين أبناء الشعب الفلسطيني، كلما اقترب تحقيق النصر، واستُعيدت قاطرة التضامن العربي والإسلامي، حتى تتحرر فلسطين والقدس الشريف.
نواكشوط في 5 جمادى 2/ الأبيظ التالي 1444 – 29/11/2022