توفي ليلة الخميس الماضي 13 محرم 1436 – 14/11/6م في نواكشوط محمد بن الداهي بن سيدي بابا، عن عمر يناهز الواحدة والسبعين، بعد مرض عضال كان متلبسا به منذ فترة؛ تاركا ابنا ما يزال في نهاية المرحلة الثانوية، وابنتين، وثلاث أخوات؛ وترك في الآن نفسه فراغا في الرشيد ومجتمعه المتمدد في تكانت ومعظم ولايات الوطن.
تربى الفقيد في أسرة دين ومروءة وشهامة، في كنف أبيه الداهي الذي توفي عنه مع البلوغ، وأمه فاطمه بنت خواه، وبين أخواته وأخيه (مات مبكرا) فشب على البرور بالوالدين والأسرة، التي توسعت بزواجه، الذي أضاف لهذا العقد النفيس: فارسا وزهرتين. فتشكلت أسرة هي اليوم مضرب المثل في التقى والورع والمروءة، والثقافة الواسعة من أدب وشعر وسيرة ومناقب، فهي مرجع الباحثين والدارسين للمجمع، وجميع أنواع الثقافة المحلية، مع الإبداع، وعلو الهمة، مما يكرس إرثا ضاربا في أعماق التاريخ.
كان محمد، عارفا بأمور دينه، مشاركا في الفنون المتداولة في محيطه، شاعرا بالعامية، جغرافيا، قل من يضاهيه في معرفة جبال تكانت وسهولها، وأوديتها، ومنابع مياهها، وأشجارها، وتركيبتها السكانية، إضافة إلى معرفة واسعة بمجتمعه والمجتمعات المجاورة، راوية للشعر الفصيح والعامي، ولمناقب الرجال، صدوقا صبورا، شجاعا، يعاف الخنى، ويأبى الضيم، والمذلة، يكرم الجار، ويقري الضيف، ويقدس العهد ويفي بالوعد.
زرته يومين قبل وفاته، بعد ما سمعت بخطورة نوبة حلت به، حيث كنا نتحادث بالهاتف فقط، بسبب صعوبة التنقل في المدينة وضيق الوقت، وخاصة أنني لم أكن أتصور خطورة المرض الذي يعانيه، ويلح عليّ أنه من سيزورني في البيت. وخرجت بعد زيارتي وحديثي معه مطمئنا إلى حد ما، وأن نوباته عابرة، خاصة وأنه أشفى لي الغليل بتفصيل وروية في موضوع سألته عنه.
وفي نوبته الأخيرة قبل وفاته، استدعى الابن وأوصاه، بحضور عدد من أفراد الأسرة، وطمأنه أن لا ديون عليه، وحدد له أماكن بعض الأمانات والودائع، وقال لإحدى القريبات التي كانت تريد أن تدلّك قدميه "لا جدوى! إذ مرت من هناك المنية، فلم أعد أحس باللمس" ثم نهَر أحد الحاضرين الذي كان يداعبه، ليحاول تخفيف ما هو فيه: "اتركني وما هو أنفع لي" وقرأ الفاتحة وبعض الآيات، ثم شرع في الشهادة، حيث لم يفقد الوعي إلا في آخر رمق. وبذلك مات محمد على ما عاش عليه من المثل التي تربى عليها.
وأول ما يتبادر للذهن أمام هذه الشجاعة، ما ذكر لي الثقاة الراوين عن شهود عيان عن موت جد أبيه لأمه محمد المختار بن الحامد؛ عندما حلت به المنية وهو في ركب من الحجاج عند ميقات ذي الحذيفه حوالي سنة 1915 - وهو مهاجر من بلاده بعد الاحتلال الفرنسي - حيث كان يعاني من مرض اعتبره رفاقه خفيفا: فالتفت إليهم وقال: "سترون اليوم موت الشجعان" فتمدد على الأرض وتغطى بقطعة قماش، وما لبث أن انقطع دون حراك.
وفقدت تكانت بموت محمد بن سيدي بابا علما بارزا قل مثيله، كما فقد الرشيد وجهه الأدبي الثقافي المتميز، وفوق ذلك فقدت الأسرة الأب والأخ والابن، وفقد الأصدقاء الزميلَ والرفيق المؤنس، المنجد عند الملمات، رحم الله الفقيد وأدخله فسيح جناته ورزق الأهل الصبر وحسن العزاء، وبارك في الخلف، إنا لله وإنا إليه راجعون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق