في كل مرة تثار فيها مشاكل موريتانيا أجدني مدفوعا إلى العودة إلى مذكرات الرئيس المختار "موريتانيا عبر التحديات" لعلي أجد فيها ما ينير الرؤية. ومن ذلك ما كتبه في الفصل الرابع عشر بعنوان {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} وهذا جزؤه الأول الخاص بالرشوة ومواجهتها، الذي أنقله إلى القارئ الكريم:
"لقد حاولت على الدوام، مدة بقائي أن يتطابق تصرفي فيها مع تصوري الأخلاقي للمسؤولية. وهكذا فإن المسؤول في نظري، وخاصة المسؤول السامي، مطالب ببذل قصارى جهده في الابتعاد عن مواطن الشبه في جميع المجالات الأخلاقية والمادية. ومن الضروري أن يتحلى بالصرامة تجاه نفسه ليكون قدوة حسنة للآخرين، وأن يفرض وجوده بالفضيلة لا بالاستبداد، وألا تكون رغبته احتكار السلطة والمال. وعليه في الوقت نفسه ألا يكتفي بتحاشي الرشوة بل تلزمه محاربتها بكل عزم وفى أي شكل مادي أو أخلاقي كانت. ولا فرق في نظري بين المحاباة والمحسوبية وبين الرشوة الصارخة والمكشوفة. فالكل مذموم ويستحق الإدانة. إن لين جانب المسؤول حيال الإخلال بواجبه ذنب لا يغفر. ولهذا السبب كنت دائما أعاقب بقسوة كلما أبلغت عن حالة من هذا النوع نظرا لأن إهمال العقاب يجعلني متمالئا مع المتهم بالخربة.
وهكذا تصرفت في كل مرة أقتنع فيها بأن مسؤولا ساميا – وزيرا كان أو سفيرا أو واليا أو مديرا أو رئيس مصلحة – أصبح غير نزيه. ولا تقف العقوبة عند تجريده من الوظيفة، بل كنت أطلب في الوقت نفسه متابعته قضائيا. وخير شاهد على ذلك إلقاء القبض على وزراء وسفراء الخ. ولم يكن هذا النهج محل إجماع، حتى في صفوف الطبقة الحاكمة، بل إن كثيرًا من الناس داخل البلد وخارجه اعتبره صارما جدًا.
وبالفعل، فقد نصحني كثيرًا بعض أعواني ومسؤولون سياسيون آخرون بالتسامح، وكانوا يبحثون عن ظروف مخففة لصالح المرتشين منبهين في الوقت نفسه على ما ينجم عن اعتقال وزير من فضائح يمكن استغلالها، مثلا، من قبل المعارضين للنظام للنيل من نفوذه وصيته عندما تعرض مساوئ بعض المسؤولين السامين في وضح النهار. وهذا خطر قائم حسب رأي هؤلاء. أما في الخارج فقد تتضرر سمعة البلد من ذلك…
ولم تتغير إجابتي لهؤلاء، إذ أعتبر أن إنزال العقوبة بمسؤول سام غير شريف لا يشكل فضيحة، بل إن الفضيحة الحقيقية تكمن في تركه دون عقاب وقد ثبت عليه عدم النزاهة الأخلاقية أو المالية.
أما مفهوم المسؤولية فيتناسب عندي مع الرتبة التي يحتلها الشخص في سلم الدولة. فكلما ارتقى إلى مسؤولية سامية كلما كان خطؤه جسيما. وعليه فإن ممارسة مسؤولية، مهما كانت درجة سموها، لا توفر حصانة لصاحبها، بل إن حسنات الأبرار سيئات المقربين. فالذنب يعظم أو يصغر حسب الموقع في المسؤولية. لمذا؟ لأن سلوك المسؤول السامي، طيبا كان أو سيئا، إنما هو أسوة للآخرين خاصة من يتبع منهم لسلطته، في حين أن تصرف الموظف البسيط التابع أقل تأثيرا.
وعليه فإن العقوبة يجب أن تكون متناسبة مع درجة الخطأ من جهة، ومع أهمية الوظيفة التي يمارسها المخطئ في سلم الدولة من جهة أخرى. ويتطلب الأمر في المقام الأول، إرساء قواعد عدالة موضوعية حقا، تخدم الجميع، وهو طموح يصعب تحقيقه في الواقع، ولكن ينبغي السعي إليه دائما. وفى السياق نفسه، قرر المكتب السياسي الوطني لحزب الشعب الموريتاني في شهر فبراير من عام 1970 التعليق المؤقت لأي عضو يتعرض لمتابعة قضائية، على أن يعاد دمج المعني إذا أثبتت العدالة براءته. وبالمقابل فإن إدانته تقتضى، حسب الإجراءات، طرده نهائيا من المكتب السياسي الوطني.
إن الطرح السابق يلخص بإيجاز جهودنا الرامية إلى تهذيب أخلاقنا وسلوكنا السياسي والإداري قدر الإمكان. فقد نجحت تلك الجهود على الأقل في الحد من آثار الرشوة والمحاباة وأمراض أخرى مشابهة، وإن لم تقض عليها بصورة نهائية. فلم يعتقد مسؤول قط، مهما كان منصبه، أنه فوق القانون. فالكل مقتنع بأنه سيعاقب سياسيا أو قضائيا أو هما معا حسب الحالات، وذلك عندما تثبت عدم نزاهته.
ويمكننا القول دون تباه بالنصر إن حالة البلد في هذا المجال سنة 1978 لم تكن الأسوأ مقارنة بنظيراتها السائدة في بعض بلدان منطقتنا. فخلال ثماني عشرة سنة مثلا لم يثبت على المسؤولين السامين من عمليات الاختلاس سوى بعض حالات تمت متابعتها قضائيًا. وكان البحث عن المختلسين في تلك الفترة على أشده من قبل مراقبي الدولة ومفتشي المالية. وأشير في الأخير إلى أن هذه السياسة نجم عنها تعميم عدد هام من الرسائل وجهتها شخصيا إلى الوزراء ومراقبي الدولة والولاة.
وهكذا تصرفت في كل مرة أقتنع فيها بأن مسؤولا ساميا – وزيرا كان أو سفيرا أو واليا أو مديرا أو رئيس مصلحة – أصبح غير نزيه. ولا تقف العقوبة عند تجريده من الوظيفة، بل كنت أطلب في الوقت نفسه متابعته قضائيا. وخير شاهد على ذلك إلقاء القبض على وزراء وسفراء الخ. ولم يكن هذا النهج محل إجماع، حتى في صفوف الطبقة الحاكمة، بل إن كثيرًا من الناس داخل البلد وخارجه اعتبره صارما جدًا.
وبالفعل، فقد نصحني كثيرًا بعض أعواني ومسؤولون سياسيون آخرون بالتسامح، وكانوا يبحثون عن ظروف مخففة لصالح المرتشين منبهين في الوقت نفسه على ما ينجم عن اعتقال وزير من فضائح يمكن استغلالها، مثلا، من قبل المعارضين للنظام للنيل من نفوذه وصيته عندما تعرض مساوئ بعض المسؤولين السامين في وضح النهار. وهذا خطر قائم حسب رأي هؤلاء. أما في الخارج فقد تتضرر سمعة البلد من ذلك…
ولم تتغير إجابتي لهؤلاء، إذ أعتبر أن إنزال العقوبة بمسؤول سام غير شريف لا يشكل فضيحة، بل إن الفضيحة الحقيقية تكمن في تركه دون عقاب وقد ثبت عليه عدم النزاهة الأخلاقية أو المالية.
أما مفهوم المسؤولية فيتناسب عندي مع الرتبة التي يحتلها الشخص في سلم الدولة. فكلما ارتقى إلى مسؤولية سامية كلما كان خطؤه جسيما. وعليه فإن ممارسة مسؤولية، مهما كانت درجة سموها، لا توفر حصانة لصاحبها، بل إن حسنات الأبرار سيئات المقربين. فالذنب يعظم أو يصغر حسب الموقع في المسؤولية. لمذا؟ لأن سلوك المسؤول السامي، طيبا كان أو سيئا، إنما هو أسوة للآخرين خاصة من يتبع منهم لسلطته، في حين أن تصرف الموظف البسيط التابع أقل تأثيرا.
وعليه فإن العقوبة يجب أن تكون متناسبة مع درجة الخطأ من جهة، ومع أهمية الوظيفة التي يمارسها المخطئ في سلم الدولة من جهة أخرى. ويتطلب الأمر في المقام الأول، إرساء قواعد عدالة موضوعية حقا، تخدم الجميع، وهو طموح يصعب تحقيقه في الواقع، ولكن ينبغي السعي إليه دائما. وفى السياق نفسه، قرر المكتب السياسي الوطني لحزب الشعب الموريتاني في شهر فبراير من عام 1970 التعليق المؤقت لأي عضو يتعرض لمتابعة قضائية، على أن يعاد دمج المعني إذا أثبتت العدالة براءته. وبالمقابل فإن إدانته تقتضى، حسب الإجراءات، طرده نهائيا من المكتب السياسي الوطني.
إن الطرح السابق يلخص بإيجاز جهودنا الرامية إلى تهذيب أخلاقنا وسلوكنا السياسي والإداري قدر الإمكان. فقد نجحت تلك الجهود على الأقل في الحد من آثار الرشوة والمحاباة وأمراض أخرى مشابهة، وإن لم تقض عليها بصورة نهائية. فلم يعتقد مسؤول قط، مهما كان منصبه، أنه فوق القانون. فالكل مقتنع بأنه سيعاقب سياسيا أو قضائيا أو هما معا حسب الحالات، وذلك عندما تثبت عدم نزاهته.
ويمكننا القول دون تباه بالنصر إن حالة البلد في هذا المجال سنة 1978 لم تكن الأسوأ مقارنة بنظيراتها السائدة في بعض بلدان منطقتنا. فخلال ثماني عشرة سنة مثلا لم يثبت على المسؤولين السامين من عمليات الاختلاس سوى بعض حالات تمت متابعتها قضائيًا. وكان البحث عن المختلسين في تلك الفترة على أشده من قبل مراقبي الدولة ومفتشي المالية. وأشير في الأخير إلى أن هذه السياسة نجم عنها تعميم عدد هام من الرسائل وجهتها شخصيا إلى الوزراء ومراقبي الدولة والولاة.
ومن غير المستغرب أن تثير هذه السياسة استياء من تعرضوا للعقوبة جراء الأسباب التي تم عرضها، وأن تكون الحال كذلك بالنسبة لذويهم وحلفائهم، وهي السياسة التي سماها البعض "صرامة المختار السقيمة". يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق