السبت، 7 يونيو 2014

مصلو تفرغ زينه يستقبلون رمضان بدون الإمام أحمد بن محمد فال



  
 


دأب سكان حي "سـوكـوجـيــــم" على صيام شهر رمضان الفضيل وقيامه، يستقبلونه بفرحة، يصومون نهاره ويصلون ليله، كباقي مساجد العاصمة الكثيرة لله الحمد، مجتهدين في أعمال البر من بذل للفقير والمحتاج؛ يأدون الفرائض الخمس في المسجد، يجتهدون في الوصول باكرا لأخذ أمكنتهم خلف الإمام في صلاة العشاء – رجالا ونساء - في ساحة المسجد، ثم صلاة التراويح.
وقد ظل خلال العقدين الأخيرين القارئ الحافظ أحمد بن محمد فال بن سيدي بابا، إمام هذا المسجد، الذي يقبل عليه سكان الحي المترامي الأطراف، بل جيرانهم من الأحياء الأخرى، خاصة في رمضان.
  وفي 27 من رجب الماضي وافت المنية الإمام أحمد في تونس وهو في رحلة استشفائية من مرض عضال قاومه عدة سنوات بصبر وشجاعة، فكانت رزية لمصلي المسجد ورواده، ورزية لهذه البلاد بفقد أحد حفظة كتاب الله العزيز.
  لم أكن من الرعيل الذي عايش آخر فصل من قصة نجاح هذا الرجل العبقري الصبور، ولكني سمعتها من المصلين القدماء، وهي تحويل كشك من الصفيح، كان مخزنا لمعدات شركة سوكوجيم، إلى مصلى ومقر كُتّاب لتعلم القرءان وحفظه، ثم إلى مسجد. وقد استمتعت بعد عودتي من الغربة الطويلة إلى الوطن منذ ثماني سنوات بارتياد بيت الله هذا، المريح بموقعه العامر بجماعته، خلف إمامهم.
  زرت معظم أحياء نواكشوط لأطلع على التوسع الذي حدث، فوجدت مدينة عامرة بالمساجد من أحجام وأشكال مختلفة، في نهضة مباركة تعوض عن الإخفاق في مجالات أخر، وصليت في العديد منها، فبُهرت بعدد الجمهور المصلي، ونوعيته، التي يمثل الشباب غالبيتها، بعد أن لم يكن في العاصمة خلال خمس عشرة سنة من إنشائها إلا جامعان وثلاثة مساجد، حيث كان الناس يعتاضون عنها بالصلاة في منازلهم. وإضافة إلى ذلك بُهرت بعدد من الأئمة، لحفظهم وحسن تلاوتهم، وتنوع مقرئهم، من ورش وقالون إلى قراءة حفص الوافدة، وإن كان البعض من الأئمة الشباب يقلدون مُقرئي الحرمين الشريفين حتى كأنك تسمع عبد الرحمن السديس أو سعود الشريم أو على بن عبد الرحمن الحذيفي.
  وفي مسجدنا ينتمي الإمام إلى المدرسة الشنقيطية وخاصة إلى محاظر القرءان في أفلّه والعصابة والحوض، التي هي - لله الحمد - احتياطنا الاستراتيجي في حفظ القرءان وتعليمه، فهو صمام أمننا في مواجهة الجهل والزيغ والانحراف، يتلو في الفرض بقراءة ورش وفي التراويح بقالون، متوخيا التخفيف لقصر المد عند الأخير وبطريقتنا المحظرية المؤثرة. وعندما ينتصب هذا الرجل المائل إلى القصر والنحافة، ويُحرم للصلاة مندفعا في التلاوة، تجد نفسك خلف عملاق من جنود الله لا يكاد محرابه يسعه، تتهادى كلمات القرءان من فيه بسلاسة وعذوبة، رحمةً على المومنين ووبالا على الغافلين؛ في ملحمة مع النفس والشيطان أمام الخالق الديان، وفي اقتفاء حرفي لما صح من صفة صلاة رسول الله عليه وعلى آله الصلاة والسلام؛ ويزيد خضوعك وخشوعك انضباط هذا الرجل في حركاته وكأنها  مبرمجة على جهاز آلي، فالوقت هو الوقت، وقدر القيام والسجود والركوع محدد، والهيئة هي نفسها طوال السنة: لباس نظيف، يكاد يكون من مقاس واحد، يغطي الجسم كله ولا يزيد، لا ترى إلا المُحيا والرقبة والأيدي والسواعد والسيقان، دون أن يظهر السروال، بينما تُتوّجُ العمامة ذاتُ الذؤابة هامتَه البيضاء، مما جعلني أقول لبعض الإخوة إن الإمام بانضباطه يشبه من تدرب في الجيوش، قبل معرفتي بقصته الكاملة أياما قبل رحيله. إنه باختصار مدني متحضر ومنضبط، كمن لم يتأثر بالبادية وبعض مسلكياتها التي تشوب سلوك معظمنا اليوم حتى في بيوت الله.
                                       رحلة الحياة
  ولد فقيدنا في موضع يُدعى بيظة الماء في الأطراف الجنوبية الشرقية لأفلة (الواقع آنذاك بين ولايتي العصابة والحوض) قبل حوالي ستين سنة، في أسرة صيتُها بالأمانة والصدق منثور في الحي والقبيلة، وعندما بلغ سن الدراسة تولى أمرَه زوج خالته محمد المختار بن سيدي بن عُمارُ، متنقلا به في أطراف البادية إلى حيث المرعى والكلأ من وادي أم الخز المنبثق إلى الشمال الغربي من جبل العاگر، حيث منازل القبيلة، التي تتجه جنوبا في بعض الأحيان زمن الصيف إلى ضفاف أعالي نهر سنغال وحاضرته خاي. وما أن كسر "اذْهَابَة" (حفظ القرءان دون المقرء) حتى عاد الصبي الحافظ إلى والديه، ليبدأ قراءة علم التجويد، ويأخذ السند (الإجازة في قراءتي ورش وقالون عن نافع)، وهو في هذه الفترة مساهم في رعاية الماشية والقيام بنصيبه من شؤون الأسرة وإعالتها مع إخوته. ثم اتجه إلى تدريس القرءان للصبيان لدى الأقارب، كمصدر للعيش بعد سن البلوغ، كعادة أقرانه من حفظة القرءان الشباب، المتخرجين في المحاظر المحلية التي كان من أشهرها محظرتا محمد فال بن القاسم، ومْحمد بن اچّوهَ. وهكذا تنقل في أطراف الولاية والبلاد، حتى حطت رحالُه في أكجوجت ليعلّم الصبيان لدى بعض الأسر.
وقد تاقت همته إلى الدخول إلى الجيش، ربما لكسر حاجز العزلة، الذي ضربه الاحتلال على القبائل التي حاربتهم فمنعوا عنها اقتناء السلاح أو استعماله، مما ولد عزلة لدى غالبية الشعب والابتعاد عن السلطة الوطنية وأدواتها، والتي ظلت في نظر الكثيرين امتدادا لإدارة الدولة الفرنسية الظالمة، حيث منعوا التعامل معها خلال الستين سنة من الاحتلال. وقد ترسخ هذا النهج في مناطق المقاومة أكثر من غيرها، مثل أفلّه والعصابة التي ظلت جبالها – كما تگانت - سنوات عدة معقلا للمقاومة المسلحة (أهل الكديه) قبل انتصار المحتل الغاشم. أليس مستقر جزء من قبيلة إمامنا في حاضرة بوگادوم المجاورة لرأس الفيل، حيث ضريح شيخ المجاهدين الأمير بكار بن سْويدي أحمد؟ ومن المنطقة نفسها التي واجه فيها مقاتلو أفله والعصابة الغزاة المحتلين في  الجحافية، والبيظ وعلب الجمل و أجار ولد الغوث، ، بقيادة سيدي بن الغوث، ومن نفس المجموعة التي استشهد أبطالها في انييملان، من أمثال محمد الأغظف بن الشيخ بن الجوده، وحد بونا بن جدُّ بن عبد الرحمن خْليفه  من ضمن حوالي أربعين شهيدا منهم في هذه المعركة.
أُرسل الشاب أحمد إلى المغرب في دورة تدريبية في سلاح المدرعات، ليعود سائق مدرعة، ثم أبعد من الجيش سنة 1987 في الحملة التي شُنت على البعثيين، وراح ضحيتها المستعربون من أمثاله. فما كان منه إلا أن عاد إلى مهنته المباركة الشريفة تعليم القران، الذي جره إلى قلب العاصمة، فاكتتبته شركة سوكوجيم حارسا لمعداتها، في الكوخ الشهير؛ ليكون صاحبُنا مركزا دينيا واجتماعيا، حيث شكل محطة استقبال للأهل القادمين من مواطنهم للاستشفاء وقضاء الحوائج، أو العبور، كما توسعت الأسرة، وكبر بعض الأولاد، الذين حفّظهم القرءان إلى جانب التعليم في المدارس الرسمية، ليتخرج البعض منهم، بينما يواصل الصغار الرحلة المباركة، وقد أنتدب أحدَهم العامَ الماضي ليصلي بالناس التراويح.
إننا لنبتهل إلى المولى الرحمن الرحيم أن يحسن مثواه ويتغمده برحمته، مرددين مع الإمام الشاطبي:
 وإنّ كتابَ الله أوثقُ شافـعٍ  وأغْنى غِناءٍ واهبًا مُتفضِّـلا
وخيرُ جليسٍ لا يُمل حديثـُه وتَردادُهُ يَزداد فيـه تجَمـــــُّلا
وحيثُ الفتى يرتاعُ في ظُلماته من القبر يلقاه سَنًا مُتهلِّـلا
يُناشد في إرضائـه لحبيبـه  وأجدرُ به سُؤلا إليه مُوصلا 

هناك تعليقان (2):