الأحد، 6 مارس 2011

الذكرى الثانية لرحيل الطيب صالح


بسم الله الرحمن الرحيم

أشكر نادي القصة دعوته لحضور هذا اللقاء، المخلد للذكرى الثانية لرحيل الطيب صالح.
كان أول ما خطر ببالي عندما قررت الحديث في هذا اللقاء ثلاث محطات:
الأولى في الدوحة في ربيع 1975 حيث أقمت مع الطيب صالح علاقة استمرت طيلة العقود الأربعة الأخيرة. كانت المناسبة اجتماع اتحاد الإذاعات العربية، حيث كنت أرأس الوفد الموريتاني، بينما يرأس هو الوفد القطري، بوصفه مديرا عاما للإعلام في قطر أي المشرف على الوزارة قبل أن يكلف بها وزير، حيث كان الآمر الناهي في هذا القطاع الحيوي للدولة الناشئة، والمشرف الفعلي أيضا على الشئون الثقافية.
   خلال الجمعية العامة لاتحاد الإذاعات، وردتْ عدةَ مرات ـ في كلمات رؤساء الوفود ـ الدعوة إلى مدّ يد العون للإذاعات الفقيرة في اليمن والسودان والصومال وموريتانيا؛ وهو ما جعلني أتناولت الكلمة لأقول: إنني ـ نيابة عن نظرائي مديري إذاعات هذه الدول التي تصفونها بالفقيرة ـ أحتج على هذه الطريقة التي تعاملوننا بها، وأرجوكم الكف عنها، لأن مؤسساتكم ليست مخولة أصلا بتقديم العون، بل أنتم – كما يتضح من الوثائق المتداولة ـ بحاجة إلى موازنات تغطي احتياجاتكم الخاصة. وعلى كل فإن الحكومة الموريتانية – إن قررت طلب عون لإذاعتها ـ ستتوجه إلى من يعنيهم الأمر، وهم ملوك وأمراء ورؤساء الدول، وليس إلى مديري الإذاعات، الذين لا يملكون إلا تحسين الصورة أو تشويهها، وهو ما قد يكون وقع اليوم.
وقد ساد وجوم بين الحاضرين بسبب مفاجأة الرد، وبدأ رئيس الجلسة في الاعتذار، ومعه عدد من رؤساء الوفود منهم محمد سعيد الصحاف مدير عام الإذاعة والتلفزيون العراقي آنذاك، وقد اتجه نحوي الطيب صالح من مقاعد الوفد القطري فعانقني وقال بصوت مسموع ما معناه لقد أحسنت.
وفي اليوم الموالي سلّمته رسالة من وزير الثقافة والإعلام آنذاك أحمد بن سيدي بابا تعرب عن الرغبة في التعاون بين القطاعين، فاستفسر مني الطيب صالح قائلا: "هل باستطاعتي أن أسألك عن إمكانية دعمنا لقطاعات الإعلام والثقافة في موريتانيا؟" فضحكت وقلت له: إنكم مَن أعني، حيث تملكون الإمكانيات والصلاحيات عكس زملائنا أمس، ثم استقبل أميرُ دولة قطر رؤساء الوفود، فنبهه الطيب صالح إلى الخطاب الذي حملته، وهكذا زار الطيب صالح نواكشوط في أكتوبر من تلك السنة ليحمل معه مبلغا كبيرا من دولة قطر، موّل تأسيس المعهد الموريتاني للبحث العلمي، ودُعمت منه الوكالة الموريتانية للأنباء، والشركة الموريتانية للصحافة الناشئتان.
   المحطة الثانية كانت هنا في نواكشوط، بعد زيارته لموريتانيا التي قادته لعواصم ولايات الترارزه، وداخلة نواذيبو، وآدرار، ومدينتي المذرذره وشنقيطي، حيث قال: "لو أتيحت الفرصة لإعادة كتابة تاريخ اللغة العربية لقيل إن منبعها موريتانيا".
   ومن هذا التاريخ كسبتْ موريتانيا الطيب صالح، الذي أصبحت في مقدمة اهتماماته، يتحدث عنها في المهرجانات والندوات واللقاءات، حتى رحيله، فكان سفيرها المتجول الذي لا يوصد أمامه باب، ولسانَها في المنابر العربية والأجنبية، معوضا عن قصورنا في التعريف بأنفسنا، حتى أصبحت موريتانيا لدى محاوري الطيب صالح الموضوع الحاضر، ليس من باب الإلحاق، وإنما منبعا للثقافة العربية، ومصدرا رئيسا للتراث الإسلامي المشترك، ونصدر تسامح وإنصاف، يتجلى في أجمل حلله بما تحتله المرأة الموريتانية من مكانة سامقة، لا بالقوانين المستوردة ودعوات التغريب والمسخ.
  وقد بلغ حبُّ الطيب صالح لموريتانيا وأهلها حدا جعله يخرج أحيانا عن وقاره وهدوئه المعروفين، عندما يُخدش وجه موريتانيا العربي الإسلامي الناصع، حتى ولو كان ذلك من الموريتانيين أنفسهم.
 المحطة الثالثة، في خريف 1988 بباريس، حيث كان يقول "يجب أن تنتهي الحرب في السودان، لئن لا يفقد بلدنا أعز ما لديه، وهو استقلاله وهويته، حتى لو كان ذلك بالانفصال" وها هو السودان ينهي هذه الحرب بالطرق الحضارية، عبر المفاوضات وتقرير المصير لسكان الجنوب، الذين ظلت حركاتهم السياسية والعسكرية مصدر القلاقل وذريعة لتكالب القوى الخارجية على السودان وأمنه، راجين من الله أن نكون في بداية مرحلة جديدة من الاستقرار، ليتمكن هذا البلد الشقيق التوأم، والمفصلي في إفريقيا والعالم العربي من النهوض والتقدم.
   ويومها تحدثنا طويلا عن مستقبل أمتنا العربية والإسلامية وقارتنا الإفريقية وبلديْنا بصورة خاصة، وعن إشكالية العلاقة بين الشمال والجنوب. وكان رأي الطيب صالح أن مصر هي مفتاح الإصلاح في العالم العربي، وأن وضعها آنذاك كان مثبطا للعزائم، وخاصة للسودان، الذي يرتبط معها بعلاقات مؤثرة على حاضره ومستقبله أكثر من أي بلد عربي آخر.
   أما رأيته في العلاقات بين الشمال والجنوب، فتعبر عنها قصصه ومحاضراته وكتاباته الغزيرة في الصحف والمجلات، التي نرجو أن ترى النور حتى ينهل منها الجميع. ولم يتستر الطيب صالح ـ المقيم في لندن والمتشبع بثقافة الغرب ـ على التناقض بين الغرب والشرق، كما لم يجامل في وقوفه ضد الاستلاب والمسخ، الذي هو من تجليات صراع الحضارات، الذي يريد البعض إنكاره خوفا من تغوّل الغرب بعد أحداث 11 شتمبر. ألم يَـنفِـر الطيب صالح من أن توصف أعماله بالعالمية حتى لو ترجمت إلى لغات أجنبية؟ حيث يرى أن العبرة باحترام العمل الأدبي لثقافة الشعب وأصالته، وتعبيره بصدق عن همومه التي هي في النهاية إنسانية.
   ومن فلسفة الطيب صالح نستخلص أن أبناء الجنوب أنداد لأبناء الشمال، لكن الجهل والظلم قد قضى بأن يظلوا متخلفين، يتصارعون داخل حدودهم وبين دولهم، ضمن أنموذج مشوه لنظام فصّله الاستعمار، وأدى إلى عقم في  السياسة ومسخ في الثقافة وترد في الاقتصاد، وتدمير للبيئة، لا خلاص منه إلا بابتكار نموذج محلي أصيل، قد يلتقي مع تجارب الغرب وتجارب الشرق، على أن يوصل إلى حكم ديمقراطي، منبعه الشعب، وقاعدته التداول السلمي على السلطة، ومبتغاه الحكم الرشيد والشفافية، يضمن المساواة والعدل، واحترام التعددية وحقوق الإنسان.
   إنكم  أيها الشباب في نادي القصة مدعوون إلى حمل الرسالة التي تركها الطيب صالح، عبر آثاره الخالدة، لتعبروا ـ بصدق ـ كما فعل هو ـ عن هموم شعبنا، وأن تنيروا له الطريق في صور أدبية أصيلة حتى ندخل القرن الحادي والعشرين، قرن كسر قيود التهميش والظلم، حيث لا منّة على الشعوب من حكامها بل تسابق للحكام على إرضاء الشعوب.
   إن انتفاض قطاعات واسعة من شباب الأمة العربية، على رأسهم شباب تونس ومصر، ليبشر بالخير، خاصة وأنهم رسخوا قواعد جديدة هي أن التغيير ممكن دون إراقة الدماء، ودون الفتنة بين الأغنياء والفقراء، أو بين أتباع الأديان، وفوق ذلك أن التغيير يتم دون إذن من القوى المهيمنة في العالم، بل حتى دون علمها.
   لقد أثبت شباب تونس ومصر أن شباب الأمة بخير، ودحضوا ما كان يروج عنه  من ضياع ولهث خلف المال والمتعة.
ذلكم نتاج تراكم ما خلفته الرؤية الثاقبة لكتّاب ومفكرين وفلاسفة وأدباء وروائيين وقصاصين، ورجال دين وسياسة، في طليعتهم الأديب الزاهد المسلم الطيب صالح، رحمه الله




الجمعة، 4 مارس 2011

وضع اللغة العربية خمسين سنة بعد الاستقلال



   طُرحت في أول اجتماع لمجلس الوزراء في شهر يناير 1961، أي بشهر بعد إعلان الاستقلال يوم 28 نومبر 1960، ثلاث قضايا اعتُبرت أهم ما يواجه الكيان الجديد، وبحلها يمكن تفادي بعض المطبات المنتظرة، وهي:
•    مكانة اللغة العربية
•    مصير المشيخة القبلية
•    التعامل مع الكوادر الذين تركتهم فرنسا لتسيير الإدارة
  
وقد حُسم الموضوعان الأخيران بترك الشيوخ القائمين آنذاك على وضعهم، وامتناع الدولة عن تعيينهم في المستقبل، لأنه من خصوصية القبائل والعشائر، لا دخل للدولة فيه، أما المتعاونون الفنيون الفرنسيون فقد تقرر الاحتفاظ بهم كمستشارين لا يتحملون أعباء رئاسية تنفيذية.
   أما اللغة العربية، فلم يصدر بشأنها قرار حاسم، وتُرك الأمر إلى الهيئات السياسية المنتظر إقامتها، مما فاقم الجدل بين النخب السياسية حولها ونغّص من عيش الجميع، حتى إعلان ترسيمها في فبراير سنة 1968.
   فبعد المؤتمر التأسيسي لحزب الشعب في دجمبر 1961 كان المطلب الدائم لأقسام الحزب، وللناطقين باسم السكان ـ في الزيارات الرسمية وغيرها من المناسبات ـ الترسيم الفوري للغة العربية، وذلك باستثناء قسمين في ضفة النهر، رغم تأكيد السكان التعلق بها، لأنها لغة القرآن الكريم ، وقد تطور الخلاف في صفوف الحزب إلى أن عُلقت أعمال مؤتمره الأول في شهر مارس سنة 1963، حيث ظلت أقلية فاعلة، منها أعضاء في المكتب السياسي والحكومة، تتمسك بالوضع القائم وهو استمرار الفرنسية ـ كما في الدستور آنذاك ـ لغة رسمية واللغة العربية لغة وطنية، متحججين بأن غير ذلك سيثير الاضطراب، بينما قاد الدفاع عن اللغة العربية معلموها الذين كانوا قلة، مقارنة بنظرائهم المتفرنسين، والذين كانوا يعانون من ضيم صارخ، أدناه أن رواتبهم لا تمثل سوى نصف رواتب نظرائهم.
   ونتيجة للاحتقان المستمر اضطرت الحكومة إلى إصلاح التعليم  وإدخال اللغة العربية كمادة إلزامية في المرحلة الثانوية، على أن يُطبق ذلك  تدريجيا، وهو ما أثار أحداث 9  فبراير 1966 التي شهدتها نواكشوط وكيهيدي وأدت إلى موت ستة أشخاص.
   ونتيجة لهذه الأحداث، تسارعت وتيرة التوجه السياسي نحو ترسيم اللغة العربية ووضع خطة ازدواجية التعليم بعد مؤتمر الحزب في يونيه 1966 بالعيون، ضمن تعليم موحد، تتساوى فيه اللغة العربية والفرنسية بحلول سنة 1979، وهو ما أجهضه انقلاب 10 يوليه 1978.
   وينبغي التنويه هنا بأن مَن أعلن قرار مؤتمر العيون بترسيم اللغة العربية عبر الإذاعة هو وان بيران ممدو عضو المكتب السياسي وزير الخارجية نهاية سنة 1966.


وضع اللغة العربية عند الاستقلال


    عندما نعود إلى عهد الاستقلال، نلاحظ أن اللغة العربية كانت لغة جميع الموريتانيين سواء منهم البيظان أو لكور والذين يستعملونها في كتابة لغاتهم المحلية، وهو الأمر الذي كان سائدا حتى ذلك التاريخ، أو قريبا منه في جميع دول إفريقيا المسلمة، سواء كانت ناطقة بالفرنسية أو الإنجليزية؛ وقد ساعد نفور الموريتانيين بجميع مشاربهم اللغوية من المدرسة الفرنسية إلى استمرار احتفاظ اللغة العربية بمكانتها رغم محاربتها من المحتل الذي تفرد بهذا النهج عن الاستعمار الإنجليزي ضد اللغة العربية، بل الموروث الثقافي للشعوب الخاضعة له.
   وبما أن الإدارة في عهد الاحتلال كانت تُسيَّّر باللغة الفرنسية فقط باستثناء محكمة القاضي الشرعي، فإن الكوادر الذين ورثتهم موريتانيا المستقلة وشكلوا نواة الإدارة الجديدة كانوا من المتفرنسين، وكانوا يعتبرون أن إدخال الناطقين بالعربية ساحة العمل سيؤول إلى منافستهم في وظائفهم وحرمانهم من الامتيازات التي يتمتعون بها.         
   وفي هذا الجو الذي تسود فيه الفرنسية، فإن الناطقين باللغة العربية لم يكونوا مؤهلين لتولي مسئوليات إدارية، وهو الأمر الذي تجاوزته السلطات الرسمية بعد ذلك، عندما عينت بعض المسؤولين خارج دائرة التعليم العربي في مناصب عليا وآخرين في الإدارة الإقليمية، التي تغلغل فيها التعريب خلال العقدين الأخيرين.


ويشرّف هؤلاء ما كتب عنهم الرئيس المختار بن داداه في مذكراته "إن مثقفي اللغة العربية قد أثبتوا أنهم قادرون على تحمل أعلى المسؤوليات الوطنية على قدم المساواة مع نظرائهم من الأطر الناطقين بالفرنسية الذين كانوا يعتبرون الناطقين بالعربية "أطرا ناقصين".


   وحتى الستينات لم يكن من المألوف استعمال الفصحى لدى الموريتانيين وحتى غالبية الشعوب العربية إلا في الكتابة، قبل انتشارها عبر الإعلام وخلال المؤتمرات العربية ثم الدولية. وكان تدبيج الخطاب النثري بالعربية الفصحى في البلاد، وإلقاؤه عمليةً ندر من يتصدى لها، بينما كان نظم قصيدة فصحى أو عامية أمرا شائعا ومتداولا في المناسبات، وهي مفارقة تعود إلى ما يلاحظه المهتمون من أن أبناء الحيز الغربي من بلاد شنقيطي، قد نبغوا في الشعر واعتنوا به، بينما نبغ أبناء الحيز الشرقي أي أزواد في كتابة النص العربي النثري.
   ويروي الرئيس المختار ولد داداه في مذكراته أن معلما مساعدا قد ألقى أمامه في إحدى زياراته لتنبدغه في الحوض الشرقي خطابا بليغا في شكله ومضمونه، مما جعله يستدعيه ليتولى ـ بعد تكوينه في الخارج ـ أعلى المسئوليات في الدولة، وهو العلامة عبد الله ولد بيه. وقد أدرج طلاب معهد بوتلميت في مطالبهم سنة 1960 الرغبة في أن يخاطبهم أساتذتهم بالعربية الفصحى خلال إلقاء دروسهم ، ومن هؤلاء الأساتذة الأجلاء المرابط محمد عالي بن عدود وهو من هو.
   وقد سبب تهميش اللغة العربية في أوساط النخبة الحاكمة لجوء الكثير من المستعربين إلى تعلم اللغة الفرنسية سواء بالسماع أو بالكتابة والقراءة،  حتى لا يظلوا على الهامش، فأصبح عدد منهم لا يستهان به مزدوجي اللغة، وهو ما لم يقم به الطرف الآخر. 
   وبالتوازي مع هذا الوضع كانت الحكومة تعمل على قدم وساق لتكوين كوادر باللغة العربية في المجالات الاستراتيجة المتصلة بحياة المواطنين وهمومهم، كالقضاء والتعليم والإعلام، فأرسلت مجموعة من هذه القطاعات الثلاثة إلى تونس، لتنهض بعبء إدخال التعريب في هذه المجالات، لكن بقية قطاعات الدولة ظلت عصية على اللغة العربية بسبب انعدام الكوادر،  وعندما توفروا في الثمانينيات من القرن الماضي، غابت الإرادة لدى السلطة ولديهم هم، فاستكانوا ليكونوا مهمَّشين حتى في الإدارات التي يتحملون مسؤوليتها، معتمدين على كتبتهم المتفرنسين، وهو أمر ما يزال قائما إلى اليوم.


   ويعود للإذاعة الموريتانية الفضل الأول في انتشار اللغة العربية بين فئات الشعب كافة، حيث كانت برامجها المتنوعة في الإخبار والتوجيه والتسلية والخدمات، سببا رئيسيا في انتشار الصيغ العربية والمصطلحات، وفتح آفاق واسعة للمواطنين، لينهلوا من المعارف التي كشفتها وسائل الإعلام، وقربتها.


وقد أجهض انقلاب 10 يوليه 1978 مشروع التعريب وقسم أبناء موريتانيا إلى مدرستين عربية وفرنسية، مما كان له أثر خطير على اللحمة الوطنية، وعشنا تداعياته في أحداث 1989 المؤلمة وما تبعها، وكذلك على وضع التعليم بشكل عام والعربي منه بشكل خاص.


مكانة اللغة العربية اليوم


   يتميز المشهد الوطني بوجود وجهين للدولة الموريتانية، أحدها ناطق بالعربية يتمثل في الإعلام العام والخاص، وفي الحياة السياسية، حيث يحرص الجميع على مخاطبة الناس بلغتهم، أما الوجه الثاني فهو الإدارة المفرنسة حتى النخاع، وحتى في الوزارات التي كانت معقلا منذ الاستقلال للغة العربية، كالتعليم والعدالة والإعلام والشؤون الإسلامية، وذلك في خرق فاضح للدستور، الذي يجعل اللغة العربية لغة البلاد الرسمية.


   إنها مفارقة، أن تظل إدارة الدولة بعد خمسين سنة من الاستقلال معزولة عن المواطنين الذين يحاصرونها ليل نهار لحل مشاكلهم، في غيبة حتى للترجمة التي كان الاحتلال يوفرها، رغم أن أكثر من تسعين بالمئة من السكان كانوا يعيشون آنذاك في البادية.
  ومهما كابرنا وتشدقنا بالوطنية وتغنينا بالأمجاد وبالماضي المضيء،  فإننا نقوم اليوم بعملية انتقام للاحتلال من آبائنا الذين انتصروا عليه في رفضهم لثقافته وتمسكهم بلغتهم ودينهم وأصالتهم، طيلة ستة عقود من احتلاله، كما نقوم بهدم ما أنجزه جيل الاستقلال بعد نضال وتضحيات جسام حتى تعود للعربية مشروعيتها التاريخية ومكانتها كلغة ثقافة وحضارة وعلم وتنمية.


   إن الأمر من الخطورة بحيث يوجب على الحكومة الموريتانية أن تبادر قبل فوات الأوان بتـعريب الإدارة لتكون إدارة المواطنين، وتفعيل الترجمة لمن يحتاجها، مع الإبقاء على استعمال اللغات الأجنبية، كلما دعت الضرورة إلى ذلك، والعمل الجاد على تُبوُّئِ اللغات الوطنية البولارية والسونينكية والولفية، مكانتها الوطنية.  
   إن ما نعيشه من أزمات سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية يعود في المقام الأول  إلى محاولة إلغاء هوية هذه البلاد، بالتنكر للغتها، لسان دينها وركيزة توازنها ومصدر مكانتها في العالم، مما عرض للضياع الأجيال التي تعلمت بها، لتحقق العزة والعيش الكريم، ويعرض أيضا أجيال المستقبل للمصير القاتم نفسه. فهاهو أكثر من ستة وثلاثين ألف ملف لخريجي الجامعات، تنام في دهاليز الحكومة، تسعون في المئة منها لخريجي اللغة العربية، الذين عجزت الحكومة عن توفير العمل لهم، خاصة وأنهم ممنوعون رسميا من العمل في البنك المركزي  كما يحرمون من التوظيف في البنوك الوطنية والأجنبية والمؤسسات الاقتصادية والصناعية والتقنية والسفارات والهيئات الأجنبية المعتمدة في البلاد، لأن لغتهم العربية!. ومن هذا الوضع، وليس من الفهم المنحرف للإسلام فقط ـ كما يقال ـ وُلد التطرف واليأس، المفضي إلى الانتحار وحمل السلاح، وهو ـ مع عوامل التهميش الأخرى ـ  مصدر الثورات العربية الجارفة اليوم، في مغرب العرب ومشرقهم.
   وإن من المفارقات أن أبناء أهل السلطة والطبقات الميسورة، لم يعودوا يتعلمون إلا في المدارس الأجنبية وكأن ذلك سيضمن لهم مستقبلا أفضل! في انفصال عن المجموعة الوطنية، حيث أصبح تعليمنا الوطني خاصا بالفقراء والمهمشين الذين لا حول لهم ولا قوة! بينما تُجمِع مراكز البحث المعنية على أن أكبر عوامل كسب العلم واستيعابه والابتكار به، هو عندما يكون باللغة الأم.
   ومن المفارقات أيضا أن اللغة التي اخترناها هي الفرنسية، التي تقاتل من أجل البقاء، بعد أن تراجعت إلى المركز السابع عشر في لغات العالم، بعيدا خلف اللغة العربية، ومعها النفوذ الفرنسي والأوروبي بل الغربي أمام النهوض الشرقي الذي يلحق العرب به اليوم بعد ثوراتهم المباركة.
  
   ومن الدال أن نرى  أن عدد المتصفحين اليوم باللغة العربية للشبكة العنكبوتية (الإنترنت) قد وصل إلى خمسة وستين مليونا وأربعمئة ألف (65400000)  متجاوزين الناطقين بالفرنسية، الذين هم تسعة وخمسون  مليونا وثمانمئة ألف نسمة (59800000)، وليس الأمر بغريب، حيث  أصدرت المنظمة العالمية للفرانكفونية العام الماضي تقريرا يقول إن اللغة الفرنسية في تراجع مطرد، إلا في إفريقيا السوداء.
**
محاضرة لمحمد محمود ودادي ألقيت في احتفال جمعية المرأة للتربية والثقافة
بمناسبة إحياء يوم اللغة العربية


نواكشوط في ‏26‏ ربيع الأول‏ 1432 ـ 2مارس 2011