السبت، 5 يونيو 2010

نواكشوط والإذاعة وخيي بابا شياخ / محمد محمود ودادي*



       كان ذلك في سنة 1962، وفي عاصمة موريتانيا نواكشوط، التي كانت عبارة عن قريتين، تدعيان: "العاصمة" و"القصر" يقطنهما أقل من ثلاثة آلاف نسمة، معظمهم موظفو وعمال الدولة الوليدة، حيث يوجد في الأولى مقر الحكومة، التي لم يكتمل بعد نقل إداراتها من مدينة اندرْ (سان لويس) السنغالية، ومساكن لرئيس الجمهورية والوزراء، الموزعين بين فلل صغيرة متواضعة، بنيت على عجل، وعمارات وشقق، في عشرة صفوف، للنواب والموظفين، حسب درجاتهم، مع حييْن مخصصين للحرس والعمال الصغار. والجميع قد بدأ بناؤه على تل رملي منذ وضع الحجر الأساسي سنة 1957.
  أما القرية الثانية، القصر" فقد أسسها الفرنسيون منذ سنة 1903، لتكون أحد مراكز انطلاق الوحدات العسكرية الأولى المكلفة باحتلال إينشيري والترارزة، ولكنها بقيت قرية صغيرة، لا يجذب إليها، إلا موقعها كمركز وحيد، يقع على الطريق الاستعماري رقم واحد (وهذا هو اسمه) الرابط بين اندر وأطار عبر روصو، لذلك لا يقطنها إلا بضعة عمال من الإدارة ومحطة شركة النقل البري الفرنسية "لاكومب" وبعض التجار الصغار الآدراريين، وعائلات قليلة من قبائل المنطقة الرحل.
   ولم يكن لنواكشوط مطار يتسع لغير طائرات DC3 ، ولا ميناء بحري، وكل لوازمها تأتي من دكار، عبر طريق طوله ستمائة كلم، مائتان منها غير معبدة، وهي الواقعة في الأراضي الموريتانية، بين مدينة روصو الحدودية ونواكشوط. وكانت في العاصمة ثانوية واحدة، وأربع مدارس ابتدائية في القريتين. ولم يكن في نواكشوط كلها إلا مستوصف واحد.
   وتفصل بين العاصمة و"القصر" مساحة، طولها حوالي خمسة كيلو مترات، يجوبها السكان، مشيا على الأقدام، حيث لا توجد آنذاك، سيارات أجرة فردية ولا جماعية، والمتوفر من وسائل النقل، هو سيارات بعض الموظفين السامين، وغالبيتها من نوع "الحصانين" (deux Chevaux) التي لا تسع أكثر من أربعة ركاب، كما لا يوجد سجن بمعنى الكلمة، وإنما حبس صغير في "القصر" حيث كانت الجريمة، والسرقة بشكل خاص، شبه معدومة، والتسول مقصور على شخصين.
   و"الفندق" الوحيد، في نواكشوط كان عبارة عن أربع غرف متراصة في "القصر" يتبعه المطعم الوحيد أيضا، والذي هو غرفة متوسطة، حولت إلى قاعة طعام. وتملك الجميع عائلة "ﺰﻳﻤﻮﮔ" الفرنسية، إضافة إلى حانة صغيرة قريبة منه، تملكها سيدة فرنسية هي "ماما سيتا". وهذا "المجمع" لا يرتاده سوى الأجانب، من فرنسيين وبعض مواطني دول غرب إفريقيا، الذين كانت حكومة موريتانيا ـ كفرنسا قبلها ـ تعتمد عليهم في تسيير الإدارة.
   ولم تكن في نواكشط أنشطة ثقافية أو رياضية، فلا مسرح ولا مكتبات، ولا ملاعب، أما السينما فهي مقصورة على قاعة صغيرة في "مجمع" آل "كوميز". لكن سنة 1963، شهدت إقامة مركز ثقافي مصري، بدأ نشاطه بإقبال منقطع النظير، وسد جزءا كبيرا من الفراغ الثقافي.
   إلى جانب ذلك، كان الناس يواظبون على التعليم والتعلم، خاصة في الدروس الليلية، التي كان معلمو المدارس الابتدائية وطلبة الثانوية، يقدمونها مجانا، للراغبين فيها من رجال ونساء، على قلتهن، حيث كان معظم الموظفين عزابا، أو لا يأتون بزوجاتهم إلى العاصمة، لبعدها عن بقية مناطق الوطن، وانعدام الخدمات الضرورية فيها. ومن هنا انطلقت مدارس بن عامر الأهلية التي انتشرت في ارجاء البلاد.
   وعلى كل، كانت الدروس الليلية فرصة ثمينة للشباب المتعطشين إلى المعرفة، وللموظفين الصغار، لزيادة معرفتهم، وتحسين مستوياتهم. وكانت التسلية المفضلة لسكان نواكشوط، اللقاء في حلقات منزلية، حول لعبة "ظامت" ذات العيدان والبعرات الثمانين، المخطوطة على التراب، حيث تبدأ جلساتها بعد الدوام الثاني، من السادسة مساء، حتى الغروب، وفي العطلة الأسبوعية، مساء يوم السبت ويوم الأحد.
   وجل ما كان يدور من أحاديث في اللقاءات، هو عن أوضاع المشرق العربي، من خلال ما تنقله إذاعات القاهرة ولندن وبغداد وطنجة، وذلك رغم محدودية أجهزة الاستقبال، ما يجعل الناس يلتفون حول أصحابها.
***
   أصبحت للإذاعة دار جديدة ـ بعد أن انتقلت من فلة صغيرة ذات ثلاث غرف، ومرءاب لسيارة البث ـ عبارة عن مجمع صغير، يضم تسع غرف، اثنتان منها تحولتا لاستديو للبث وآخر لتسجيل المواد الإذاعية، وثالثة خصصت لمكتبة الأسطوانات والأشرطة، ورابعة لقاعة التحرير، والباقي موزع بين الإدارة ورؤساء الأقسام، وهذا كله وسط مساحة كبيرة، مسورة بحائط يفصلها عن شرقا عن الثانوية، التي كانت بناياتها ما تزال في طور التشييد آنذاك، شمالا عن شارع الكثيب (جمال عبد الناصر فيما بعد)، وأمامهما كشك يبيع السكائر والبيسكوت، ويفصلها غربا عن مدرسة التطبيق (بناية البرلمان السابق). وكان البث الإذاعي مقصورا على أربع ساعات في اليوم، فيها نشرتان باللغتين العربية والفرنسية، وواحدة بإحدى اللهجات الوطنية، والباقي للأغاني المحلية، وبعض المنوعات الفرنسية.
   وكانت الإذاعة تملك جهازا حديثا، قوته ثلاثون كيلوات، يبث على الموجة القصيرة، لتغطية البلاد الشاسعة، وآخر، يبث على الموجة المتوسطة، لتغطية نواكشوط ونواحيها، قوته كيلوات واحد، موروث عن الأمريكيين، عندما حلوا بمدينة أطار، بعض الوقت، أيام الحرب العالمية الثانية.
   وكان القسم العربي في الإذاعة يعتمد على مذيعين اثنين، ومترجم وراقن على الآلة الكاتبة، في بعض الأحيان.
   وكان نظام التسيير المالي المرن، الموروث عن الفرنسيين ـ الذين لم تنقطع الإذاعة عن التبعية المباشرة لمؤسستهم الإذاعية الخاصة بأقاليم ما وراء البحار، إلا تلك السنة، 1962 ـ يسمح باكتتاب متعاونين موقتين، دون أن تترتب على ذلك حقوق لهم، أو يلزمهم التفرغ للعمل في الإذاعة، ما مكن من إقامة تعاون مع شريحة من الشباب المهتمين بالعمل الإذاعي، أو طلبة المدرسة الثانوية، لمساعدتهم على إكمال دراستهم، خاصة لمن لم تكن لهم منح، وسمح للإذاعة بتوفير حاجتها من العمال، دون أن تثقل بند الأشخاص.
   وبالإضافة إلى نشرتي الأخبار المسائية والزوالية، المسجلتين، كان يُبث أحيانا تعليق إخباري، إضافة إلى برنامج يومي من ساعة، موجه إلى المغرب، ضمن الحملة الإعلامية المتبادلة. يضاف إلى ذلك، برنامجان أسبوعيان، هما "بدون عنوان" و"الحضارة والنظام في القرن العشرين" يعالجان نمط الحياة في المدينة، وما تتطلبه من سلوك.
   برغم هذا الفقر البين في المادة الإذاعية، سواء إخبارية أو توجيهية، واقتصار الترفيهي منها على بث الأغاني المحلية، كانت الإذاعة محط اهتمام الجميع، إذ لا توجد وسيلة ثقافية أو إعلامية غيرها، باستثناء نشرة أسبوعية مرقونة، توزع على الدوائر الرسمية.
   وكان البدو الرحل يمثلون في تلك الفترة، حوالي تسعين في المائة من السكان، ولمعظم وجهائهم، أجهزة استقبال إذاعية، أغلبها معدّل تقنيا، بحيث لا يستقبل إلا الإذاعة الموريتانية، وخاصة أغاني سيداتي ول آبه، سيد الطرب الموريتاني في تلك الفترة، ثم نشرات الأخبار.
   ورغم انتشار العلوم الدينية والأدبية بين البدو الرحل، فلم تكن للناس معرفة بما يجري في العالم، لأنها كانت في عزلة حقيقية، من أهم أسبابها ستون سنة من الاستعمار الفرنسي، الذي كانوا يرفضون التعامل معه، وخاصة في المجال الثقافي، مكتفين بمدارسهم التقليدية، المتنقلة في أكثرها، وهي المحاظر.
   وكان الاستماع إلى نشرات الأخبار وما تحويه من مصطلحات سياسية وإعلامية وجغرافية وغيرها، مثار اهتمام لدى المثقفين البدو، لأن مصادرهم  اللغوية من معاجم، كالوسيط وقاموس الفيروز أبادي، ودواوين الشعر الجاهلي وصدر الإسلام، لا تضم في طياتها، عبارات مثل الديمقراطية والمساواة والشيوعية والرأسمالية، ولا أسماء تجمعات، كالأمم المتحدة والجامعة العربية وحركة عدم الانحياز، وحلف شمال الأطلسي وحلف فرسوفيا.
   كما لا يعرفون من الدول إلا فرنسا وبعض مستعمراتها القريبة، والمغرب وتونس ومصر والحجاز، والباقي "كنوز" (جمع جنس) يسمعون عنها ولا يدرون أين تقع، ولا لأي دين تنتمي.
   ولم يكن اهتمام مستمعي الإذاعة الموريتانيين، منصبا على أصوات المذيعين ولا على طريقة الإلقاء، ولا نوع الأخبار التي ينقلونها، ومدى أهميتها أو حتى صحتها (لأنها كلها كانت عندهم صادقة)، بل كان الاهتمام منصبا على الأخطاء، مهما كانت بسيطة، مثل إظهار همزة الوصل في غير الابتداء، فما بالك برفع منصوب أو نصب مرفوع، أما جر منصوب أو رفع مجرور، فلم يكن من الأخطاء المعروفة قبل السبعينات.
***
   في نهاية هذه السنة، 1962، أطل على المستمعين من الإذاعة، عبر نشرات الأخبار، صوت يختلف عن سابقيه، لأنه جهوري، له إيقاع، يحترم وقف التنفس، على غرار قراءة "مذيعي لندن" لكنه لا يبالي بقواعد النحو، بل يخيل إلى السامع أنه يصر على تجاهلها، كنوع من التحدي للرتابة المعتادة، في سلامة لغة من كان قبله من المذيعين.
   وقد ضج مجتمع نواكشوط بهذا "التحدي" وجاء وجهاء يحتجون على هذا "الفعل المنكر" الذي احتسبوه "تشويها لسمعة موريتانيا في أهل الضاد"! كما لو لم يكن لأولئك من هم سوى متابعة نشرتي أخبار إذاعة نواكشوط، التي لا تُسمع إلا في أجزاء معدودة من موريتانيا نفسها.
   هذا المذيع هو خيي بابا شياخ، شاب في مقتبل العشرين من العمر، أسمر البشرة، نحيل الجسم، شديد الخجل والعزلة، قليل الحديث، يلبس بنطالا وقميصا. ومن الوهلة الأولى، كان يبدي ضيقا من نظام العمل، مع نزعة بينة إلى عدم الانضباط بأوقات الحضور، والانصياع للتعليمات، خاصة تلك المتعلقة بإعداد نشرته، وتشكيل الغامض من الألفاظ، حتى لا يرتكب الأخطاء النحوية. وكما سنرى، كان ذلك من أهم أسباب عدم تكيفه مع العمل الوظيفي.
   كان خيي بابا يختلف في أشياء كثيرة عمن سبقوه، حتى في تركيب اسمه، حيث لا يستخدم عبارة "ول أو ولد" اللاصقة ـ كتابيا ـ بالأسماء العربية الموريتانية منذ الاستقلال، ولبسه مختلف عن الآخرين، الذين لا يرتدون غير الدراعة، مع زهد كبير في احتساء أتاي، شرب غالبية السكان المفضل.
   وقد بدأ العمل في الإذاعة بأيام معدودة، من وصوله نواكشوط، حيث جاء به أحد مسؤولي الولاية الشرقية، المحاذية لمنطقة أزواد المالية، الذي كان يقيم معه في منزله، قبل أن ينتقل إلى السكن مع أحد زملائه في الإذاعة لمدة قصيرة، ثم أجر غرفة من أحد الخواص، لأنه لم يكن يرتاح لنمط العيش الجماعي في منازل نواكشوط.
   وخلال أشهر، بدأ خيي بابا يجذب الناس إليه، بعد ما تعودت على صوته الإذاعي الجميل، بل أصبحت تتعلق به، وتتغاضى عن ما يرتكبه من أخطاء نحوية، بدأت، على كل حال، تتلاشى شيئا فشيئا، إلى أن اختفت بعد ذلك بسنة، لأن خيي بابا استعان بمعلم لغة عربية، وصار عارفا بقواعد النحو والصرف، وحتى العروض، أحسن من بعض المذيعين.
   إضافة إلى ذلك، تنبه الناس إلى ما يتمتع به من نباهة وذكاء فطري وسرعة بديهة وخيال خصب، ما يتجلى في السخرية وإطلاق النكات، التي كانت مجهولة في المجتمع الموريتاني، إلا ما ندر. فكان يسخر من زملائه في الإذاعة والمسؤولين، من أصغرهم إلى أعلاهم مرتبة، ناهيك عن السخرية من لباس وسلوك أهل المدينة، الذين أغلبهم ممن جاءوا حديثا من البادية. لهذا تحول خيي بابا إلى نجم خلال فترة قصيرة، تساعده كثيرا، مهنته كمذيع، لأنها كانت تجلب إلى أصحابها، آنذاك، الشهرة والاحترام.
   والميزة الأخرى لخيي بابا، ثقافته الإفريقية المتميزة، حيث يتقن العديد من اللغات الإفريقية كـ "الصونغائية" السائدة في حواضر شمال مالي والنيجر، خاصة في مدينة تنبكتو، التي تربى فيها، مع مستوى لا بأس به في الفرنسية والإنجليزية.
   وكان ملما بالعديد من أعمال الأدباء والصحفيين المشارقة، من مصريين ولبنانيين خاصة، لأنه فيما يقول، كان في تنبكتو يحصل على الكتب الحديثة والمجلات العربية، عبر بعض التجار المشتركين فيها. وقد وجد ضالته في المركز الثقافي المصري، بعد إقامته، ونمت لديه هواية المطالعة وحب قراءة الأدب، التي رافقته حتى مماته، ومكنته من تكوين مكتبة، ضمت العديد من أمهات كتب الأدب والثقافة والفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع.
   ولخيي انحياز بيّن للتصوف ورجاله، واحترام لأصحاب الرأي، من معتزلة وأشاعرة، على حساب من كان يسميهم "أصحاب الفكر المتحجر والتفسير الحرفي للنصوص".
   وكان منزله المتواضع، قبلة العديد من الشباب المهتمين بالأدب والثقافة، حيث يستقبلهم بقلب رحب، رغم ضائقته المالية المزمنة. ويضفي على جلسائه جوا من المتعة، سواء عبر قراءاته للنصوص الأدبية، وقصائد الشعر، التي يتذوقها بكل وجدانه؛ وأحيانا يكرس الجلسة لتقمص شخصيات بعض المشاهير، وتقليدهم.
   فهو مقلد جيد للزعماء المعروفين، من جمال عبد الناصر وبورقيبه والمختار ول داداه، إلى بن بله وسينغور وهوفويت بوانيي، وغيرهم من الشخصيات المحلية، كوزراء الداخلية والخارجية والإعلام، ناهيك عن العمدة ومدير الإذاعة ورئيس التحرير.
   ومن أطرف ما كان يروّح به عن أصدقائه، محاكاته التفاخر بين سنغاليين وداهوميين، على السبق إلى التحضر، عبر معرفة اللغة الفرنسية، وتقليد سلوك الفرنسيين. 
  وكان لا يسكت عن رد الجواب، فعندما قال له زميل ٍيوما: شِكرا بكسر الشين، رد عليه فورا عِفوا، بكسر العين. ومن ذلك أيضا، قوله لنا أحد الأيام ـ ردا على تساؤلنا عن هوية شخص دخل المجلس، ثم غادره بسرعة ـ إنه جبريل عليه السلام. فسألناه كيف؟، قال: ألم يقل عمر بن الخطاب إنه: "شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد" ؟ وكانت في الزائر بعض هذه الصفات.
   وكان يقول إن سر احترامه لأحد المقربين منه، هو أن له إحدى صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي الأمية.
   وخلال نقاش مع أحد أصدقائه ـ وكان ممتلئ الجسم رقيق الصوت ـ قال له خيي بابا: أرجوك أن لا نرفع الصوت على الجيران، لأنهم إن سمعوا صوتك الرقيق، وحججك الباطلة، نسبوه إلى جسمي النحيل، أما صوتي فسينسبونه إليك مع حججي المنطقية.
   ويوما، حاول أحدهم مقاطعة حديثه، فرد عليه: اتركني، فلديك الوقت، لتؤلف كتابا، سميه: قمامة الأوساخ، في الرد على خيي بابا شياخ. وفي مزاح، عن المقارنة بين تقدم موريتانيا وليبيا، قال له صديق ليبي: نحن أكثر تقدما منكم، فنظر خيي بابا إلى ساعة معصمه، وقال: نعم، أنتم تقدمونا فعلا بساعة، يعني فرق التوقيت. 
   وخلال نقاش مع أصدقاء، يتهمهم بالسطحية، كانوا يسعون لإقامة جمعية إسلامية، يريدون لها التبشير بعصر إسلامي مزدهر، يكون بديلا لما هو مطروح من فكر، قال لهم خيي بابا بسخرية "كيف؟ ومواد دستورها لا تتحدث عن شيء من ذلك. أليست المادة الأولى: بسم الله، والثانية: لا حول ولا قوة إلا بالله، والثالثة: إن الجمعية الإسلامية الموريتانية، جمعية إسلامية موريتانية"؟.
   وحدثني زميل له من السودان، أيام تدريبه في هيئة الإذاعة البريطانية، أنهما كانا يشعران بالعزلة بين زملائهم المذيعين المشارقة، لكنهم يوما فوجئوا ببعضهم، يقترب من خيي بابا ويبدي إعجابه بحديث أدلى به في مناظرة إذاعية، فما كان من خيي بابا إلا أن قال له: سبحن الله! أنتم تتصورون أنكم أرفع شأنا منا لسمرة بشرتنا، ونحن أحفاد الرجال الذين لبوا نداء الجهاد، فانطلقوا إلى أصقاع الدنيا، ونشروا الرسالة، واختلطوا بشعوب الأرض من مشرقها إلى مغربها، حتى صارت ألواننا كما ترون، بينما ورثتم ألوانكم البيضاء وأعينكم الزرقاء من آبائكم الصليبيين الذين احتلوا أرضكم، بعدما تقاعس أجدادكم عن الجهاد، وبقوا مع القاعدين!.
   وسأل أحدهم يوما، في مجلسه عن سعر التذكرة من نواكشوط إلى طرابلس، عبر إحدى شركات طيران المنطقة، فقال: "ثلاثون ألف أوقية وشنطة" لأنهم أضاعوا فيما يبدو، شنطته.
   في نهاية سنة 1963 أُِرسل خيي بابا إلى لندن، للتدريب في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية لمدة ثلاثة أشهر، وعاد منها وقد اتسعت آفاقه المعرفية، وحسن من لغته الإنجليزية، مع اهتمام بالأدب الإنجليزي المعاصر. وعاد بالعديد من الكتب. لكن تلك الرحلة لم تفده في تحسين وضعه الوظيفي، بل زادت الهوة بينه وبين مسؤولي الإذاعة، الذين لم يحركوا ساكنا في اتجاه ما يرى أنه يستحقه. 
   وكانت نهاية سنة 1964 بداية النهاية لعلاقاته الرسمية بالإذاعة، حيث غادرها ولم يعد إليها، إلا سنة 1970، كمتعاون من الخارج، يقدم برنامجين، أحدهما يومي، يتجاوز خمس دقائق، وهو صباح الخير، يبث مباشرة بعد افتتاح الإذاعة. وهو عبارة عن خاطرة يومية شيقة، تعالج أمورا شتى، أظهر فيه مستوى من المعرفة والحكمة، زاد احترام المستمعين وتقديرهم له، رغم تعدد البرامج المنافسة في الإذاعة، بعدما توسعت برامجها الثقافية والتوجيهية والإخبارية. أما البرنامج الثاني، فكان قراءات في الأدب والنقد والتاريخ الإسلامي، وحقق أيضا نجاحا ملحوظا.
   وكما أشرنا إليه سابقا، كان عدم انضباط خيي بابا في العمل، العقبة الكأداء في وجه تحقيق أحلامه الوظيفية، رغم مواهبه المتعددة، التي تؤهله ليكون إذاعيا من درجة متميزة؛ وكذلك برغم مؤازرة محبيه الكثيرين. وهكذا فقد عمله في الإذاعة مرة أخرى، وهاجر إلى ليبيا.
   ورغم هذه المكانة التي تمتع بها في العديد من أوساط مجتمع المدينة، لم يندمج خيي بابا في المجتمع، بل ظل معزولا إلى حد كبير، للعديد من الأسباب، منها اختلاف نمط حياته، وعزلته، التي تجعله لا يخرج من بيته إلا نادرا، لزيارة بعض أصدقائه، رغم كثرتهم. ولم يتغير هذا الوضع بعد أن تزوج وأصبح أبا لصبية وولد.
***
     خيي بابا، سليل عائلتي فنّ، شهيرتين، هما من الأب: أهل أيدّه، ومن الأم: أهل سْويد بوه. وقد ورث عنهما معرفة فنون الغناء والموسيقى، وتذوقا لشتى أنواع الفنون والإبداع. وكان يعزف في بعض الأحيان على آلة التيدينت، خاصة عندما تشتد همومه.
   ولشياخ (الشيخ)  جد خيي بابا الثاني، قصة مشهورة، جرّته إلى المناطق الشمالية (من موريتانيا والصحراء الغربية) وهي أن إحدى مجموعات تلك المنطقة سبَته من موطنه في ﺖﻨﺎﮕﺘ، وهو صبي، لكن أباه حمّادي التحق به، وفك أسره بعد ما عُرف أمره، وأنه ابن عائلة كريمة، بل حظي بإكرام المجموعة السابية، حتى طاب له المقام فيها، ما جعل أحد أقرانه، وهو أبّهم ول مْحمد ول أحمد، يبعث إليه بقطعة (طلعة) من الشعر الشعبي الحساني، يعرّض فيها بمضيفيه، لأنهم ليسوا أصحاب فن، ويستهجن مقامه فيهم:
كول الْحمّادي كانْ اسْعَ         واجْبرْ مانْ سْلامةْ الانفاسْ
أُمرّت عنُّ ذيك الْخلْعَ،         إسوّلْ ذاك مْــــــن النــاسْ:
عــن لفكيعَ ﻮالمنفكعهَ:       شـــــــنهِ مارتهم فانتـَـماسْ؟.
فرد عليه حمّادي:
لفكيعَ خَبْــــطَ تـُـــمَوّرْ         مـــارَ فالــــــتاشـَـبّط ْتظهرْ
ﻮالمنفكعهََ خبطتْ لَــكورْ        مـــــارتهَ فاـلمـهرْ أردّاسْ
واصْلْ انتماسْ ادْخولْ افْكرْ        فيهْ الطّﮊانَ، غير الناسْ
كالت عنُّ هو ذا الــــدهــرْ      فاصلْ فالطّـﮊانَ والسـّاسْ
   وبعد أن عاد الوالد وابنه إلى ﺖﻨﺎﮕﺘ، هاجرا إلى أزواد، نهائيا وكان مقام والد خيي بابا بحلة الميمون بن حمادي بن الشيخ سيدي المختار.
   ولد خيي بابا في بداية الأربعينات، وتربى في مدينة تنبكتو مع جدته لأمه السالكة بنت بوقدرة. وكان الوسط الذي ترعرع فيه يتسم بالمعرفة، ما تدل عليه نباهته، ومعرفته بالدين والسيرة النبوية ومناقب مشاهير أهل المنطقة، من صالحين وسياسيين ومحاربين وفنانين. ولم يستق ذلك من المدرسة، التي يبدو أنه لم يدخل منها إلا فصلا أو فصلين ابتدائيين. وعندما ماتت الجدة، انتقل إلى بادية أزواد، لكنه لم يتمكن من الاستقرار فيها، حيث كان والداه قد انفصلا، وأصبح لكل منهما مكانه المستقل. ويبدو أن الجو لم يرق له، وهو المعروف بحساسيته المفرطة.
   وهكذا بدأ ترحالا، استمر بضع سنوات، بين الأحياء البدوية الأزوادية، وبين بعض قرى ومدن مالي والنيجر وبوركينا فاصو، مثل "كاوو" و "نيامي" وﻭﮔﺪﻏﻮ، مزاولا بعض الأعمال التي تساعده في كسب عيشه، ومنها العمل لدى بعض التجار. ثم انتقل إلى نيجيريا وغانا واستقر بهما مدة، ساعدته في تعلم اللغة الإنجليزية، ثم بدأ رحلته بالسيارة إلى موريتانيا، مرورا بجميع دول غرب إفريقيا تقريبا.
   ومن الهموم التي حملها خيي بابا معه إلى أن مات، وضع سكان منطقة أزواد، الذين تعرضوا منذ استقلال مالي سنة 1960 إلى صنوف من الممارسات التعسفية على يد حكومة موديبو كيتا، ابتداء من تقييد حركتهم في مناطق ترحالهم، وانتهاء بإطلاق عنان الإدارة لتنغيص عيشهم بالحد من كمية واراداتهم من الغذاء، من المناطق المجاورة، وإثقال كواهلهم بالضرائب على مواشيهم، ضمن نهج "اشتراكي" أضر بلاده كثيرا، وأدى إلى سقوطه.
   وقد سبب هذا الوضع تفجر ثورة سنة 1963 التي قادها أبناء "إيفوقاس" ما أدى إلى قمع دموي لم يسلم منه الشيوخ  ولا النساء، وسبب هجرة السكان إلى الدول المجاورة، مثل الجزائر والنيجر، وحتى نيجيريا، ثم بعد ذلك ليبيا، بعد سنة 1969، التي احتضنت أعدادا كبيرة من العمال، الذين كانوا مصدر رزق لمن بقي من الأهل في الوطن.
   وقد توجت كارثة الجفاف، ابتداء من عام 1970 هذه المآسي، وأتت على ما بقى من الأحياء البدوية المتنقلة، والتي مات فيها المئات جوعا.
   كان خيي بابا مدافعا مستميتا عن قضية شعبه، حيث حاول تعبئة الرأي العام الموريتاني والمسؤولين، من أجلها، وهو ما وجد آذانا صاغية لدى الكثيرين، غير أن الحكومة، ولأسباب معروفة، لم تول الأمر ما كان خيي بابا يتوق إليه من تعاطف علني، معنوي ومادي، رغم المكانة التي يحتلها مواطنو أزواد، كالصحراء الغربية في وجدان الموريتانيين، حيث هما فصيلين من المجتمع البيضاني، الذي موريتانيا أول كيان مستقل له. ألم يصرح أول رئيس لموريتانيا في فْديرك ـ حتى قبل إعلان الاستقلال سنة 1957 "أنهما جناحا موريتانيا، التي لا يمكنها أن تحلق بدونهما"؟.
   وولّد عدم تبني الحكومة قضية أزواد مرارة لدى خيي بابا، رافقته طول حياته، وحمّل الحكومة الموريتانية ورئيسها وزر هذا التقاعس، عن نجدة "إخوان في العرق والدين والجيرة" كما كان يكرر.
   وكان خيي بابا عازفا عن السياسة، بل يحتقر السياسيين ويسخر منهم، ويصمهم بالمكر والخداع، ويكره النفاق والتملق. ولم ينتم إلى حركة سياسية حاكمة أو معارضة. كما لم تجذبه دعوات القومية أو الوحدة العربية أو الحركات الإسلامية، ولا الاشتراكية أو الشيوعية. مع أنه متعاطف بحماسة مع قضايا التحرر في إفريقيا والعالم العربي.
***
     جمعتنا من جديد خلال سنتي 1976 ـ 1977 ليبيا، حيث كان خيي يعمل في الحقل الإعلامي.
   وكان اهتمامه في ذلك الوقت منصبا على الالتحاق بإحدى الجامعات ليحصل على شهادة، حيث ذاق الأمرين، من العمل دون مؤهل علمي، رغم مستواه، الذي لا يختلف اثنان على أنه يضاهي، مستويات العديدين من حملة الشهادات الجامعية، على الأقل.
   وقد كان في السبعينات، يعيّر بعض حملة الشهادات الجامعية، بقوله "إنها شهادات على الجهل". وقد انتقل في نهاية 1977 إلى المغرب، وسجل في السنة الأخيرة في إجدى المداس الثانوية، للحصول على شهادة البكالوريا، وفي الوقت نفسه، انضم إلى قسم الآداب من السنة الأولى في الجامعة، لكن المرض لم يمهله، فتوفي بمستشفى ابن سيناء في الرباط، في أحضان أحد الطلبة الموريتانيين، وهما ينتظران مقابلة الطبيب، في إبريل 1978.
   ومما أدى إلى هذه النهاية المفجعة إهماله العلاج، والانهماك في التحصيل، ما أدى إلى تدهور شديد في صحته وتهالك قواه، وهو الذي كان يعاني من مرض صدري مزمن، أصابه منذ منتصف الستينات، دون أن يتوفر له العلاج الشافي.
   وهكذا انطفأ نجم أزواد في أوج عطائه، ومعه خصال إنسانية راسخة، من قناعة وكرم وشهامة وشجاعة، وتفان في قضاء حوائج الآخرين، وإحسان على الضعفاء والمساكين، والإخلاص لقضية أزواد، وأبنائه، حتى أيامه الأخيرة في ليبيا، عندما كان يجهد لتوفير الأوراق، التي تمكنهم من الاستفادة من العمل الذي وجدوه بوفرة.
   وأذكر أنه عندما جاءني قبل سفره إلى الرباط، مودّعا، طلب توفير أوراق لبعض أبناء أزواد، فلبيت كل طلباته. ففوجئ، وقال "ألن نلتقي ثانية؟" حيث كنت أتلكأ أحيانا في تلبية مطالبه، انتظارا لأذن السلطات المركزية في نواكشوط، وهو ما يتطلب بعض الوقت. وكان الأمر كما قال، فكان ذلك آخر لقاء بيننا.
   رحم الله خيي بابا رحمة واسعة وأسكنه جناته، إنه سميع مجيب الدعاء.


* كاتب صحفي وصديق وزميل للفقيد، رئيس تحرير  الإذاعة، ثم مدير عام لها، فسفير في طرابلس ثم وزير للثقافة والإعلام


هناك 3 تعليقات:

  1. رحم الله خيي بابا وجزاك انتم سيدنا الكريم الله خيرا على هذا المقال الا كثر من رائع

    ردحذف
  2. رغم أني لم أحظى بلقائه ولا رؤيته نظرا لعامل السن إلا أنني تابعت بعضا من نشراته مسجلة بأرشيف الإذاعة فكان خي بابا شياخ ظاهرة بحق رحمه الله.


    فتن ولد متالي مقدم نشرات أخبار بالإذاعة (الجيل الجديد)

    ردحذف
  3. رحمة الله علينا وعليه واسكنه فسيح جنانه لقد كان اكثر من رائع

    ردحذف